بناة و هدّامون!!

أمتنا منهكة و مثقلة بالجراح، وتئن تحت وطأة التخلف والفقر، وبدلاً ‏من تسخير تلك القنوات والوسائل لإحداث نهضة حقيقية لها، وزيادة ‏معدلات الإنتاج والتقدم العلمي والاقتصادي، نظل في تركيز جرعات ‏الترفيه والتخدير والإغراق في الشهوات
‏حديثي هذا الأسبوع عن صنفين من الناس، الصنف الأول بناة، قدموا ‏لأنفسهم الخير، ولأمتهم النصح، ونسأل الله أن يجعلهم من المفلحين، ‏وأما الصنف الثاني فقد حملوا معاول الهدم، وأخذوا -فيما يبدو- على ‏أنفسهم العهد بأن يدمروا أخلاق وقيم أمتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ‏العلي العظيم.‏
فأما البناة الأخيار فقد رحل عنا منهم في شهر رجب المحرم الجاري ‏ثلاثة هم، فضيلة الشيخ حسن أيوب، وفضيلة الدكتور عويد المطرفي، ‏ومعالي المهندس محمود طيبة، نسأل الله أن يتقبلهم في الصالحين، ‏وأن يغفر لهم، ويتغمدهم بواسع رحمته، وأن يلهم ذويهم الصبر ‏والسلوان.‏
فأما فضيلة الشيخ حسن أيوب فلم يسعدني الحظ بلقائه أو المثول بين ‏يديه، وإن كنت واحداً من الملايين الذين استفادوا من السماع ‏لمحاضراته.‏
وأما فضيلة الدكتور عويد المطرفي فقد التقيته عدة مرات، وأكثر ما ‏شدّني لهذا الرجل الفاضل خصلتان، الأولى: تواضعه ولطفه ‏وابتسامته التي لا تغادره برغم ما كان يحمله من مهام ومسؤوليات، ‏وما يلزم نفسه به في خدمة أهله، ولعله بذلك يسعى لخيرية من يكون ‏خيراً لأهله. والثانية حبه الشديد رحمه الله لسيدي رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم، بلّغه الله رفقة الحبيب عليه الصلاة والسلام في الجنة.‏
وأما معالي المهندس محمود طيبة، فقد شرفت وسعدت بالعمل معه ‏وتحت إشرافه وتوجيهه السنوات الثلاث الأخيرة، من خلال عضويتي ‏لمجلس إدارة الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمكة المكرمة والمدينة ‏المنورة والطائف، التي أسسها ورأس مجلس إدارتها، وسوف أقصر ‏كلامي عن هذه الفترة وعما لمسته من جوانب شخصية هذا الرجل ‏الكبير.‏
فأول ما لفت انتباهي تكوين جمعية الأيتام، سواء من جهة تمددها إلى ‏ثلاث مدن رئيسية، وهي الجمعية الوحيدة التي تحقق لها هذا الوضع ‏الفريد، أو من جهة أعضاء مجلس إدارتها، فهم نخبة من الوزراء ‏والأعيان من مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض ‏وجدة، وهذا أيضاً وضع فريد في المدن الثلاث التي تعمل فيها ‏الجمعية، وأعتقد أن همة معالي المهندس محمود ودأبه كانت وراء ‏ذلك.‏ وتجاوز عدد الأيتام الذين ترعاهم الجمعية في المدن الثلاث الخمسة ‏آلاف يتيم ويتيمة، ويُضاف إليهم أفراد أسرهم الذين يستفيدون من ‏برامج الجمعية، التي تتعدد لتشمل الإيواء الشامل، والدعم النقدي، ‏والعيني، واستئجار المساكن، وترميمها، وحتى بنائها في بعض ‏الحالات.‏
وفي مجال الأيتام لمعاليه أياد وجهود خارج المملكة في كل من ‏باكستان والبوسنة، وكفل بعضهم في بيته، لتطمئن نفسه لنيل وعد ‏الحبيب عليه الصلاة والسلام بمرافقته في الجنة –كما نقل عنه ‏د.عبدالله دحلان-، وأسأل الله أن يبلغه ذلك بنفس مطمئنة راضية ‏مرضية.‏
وأما فيما يتعلق بأسلوبه في العمل، فقد تميز بدعمه الكامل وتشجيعه ‏للأعضاء الشباب في مجلس إدارة الجمعية، وتقديره واحترامه ‏للجميع، برغم علو قدره عندهم جميعاً، حتى إنه في مرة فاجأني ‏باتصال يأخذ فيه رأيي حول قرار فوضه المجلس سلفاً باتخاذه، ‏فأخجلني ذلك الموقف كثيراً، وأكدت له أن ما يقرره لن أخرج عنه، ‏لثقتي غير المحدودة في معاليه، ولكنه أبى إلاّ أن يشدني إلى نقاش ‏حوله، رحمه الله رحمة الأبرار.‏
وأما أبرز ما يُضاف إلى عظمة هذا الرجل الفريد، هو قراره بالتنحي ‏عن رئاسة مجلس إدارة الجمعية، عندما شعر بعدم قدرته على أداء ‏مسؤولياته كاملة تجاهها بسبب مرضه الأخير، وإصراره على نقل ‏الدفة إلى نائبه الدكتور بكر خشيم، ولن أنسى حضوره الاجتماع ‏الأخير قبل عدة أشهر، وإعلانه عن قراراه بالتنحي، وإفساح المجال ‏لنائبه لرئاسة الجلسة واستمراره ومشاركته فيها حتى نهايتها. فهكذا ‏هم الرجال الرجال، وهكذا هم الكبار العظماء. رحمه الله رحمة ‏الأبرار وإنا لله و إنا إليه راجعون.‏
وأما الهدامون فهم أولئك الذين يمكرون بالليل والنهار لا يفترون، وقد ‏أسلموا أنفسهم إلى الشيطان وأعوانه من الإنس، وسخّروا أموالهم ‏وأنفسهم لخدمته، ولإخراج الناس من نور الإيمان والقيم والأخلاق ‏والأعراف والعادات الحميدة، إلى ظلمات المعصية والرذيلة والفساد، ‏وتفكيك منظومة القيم والأخلاق التي تنتظم مجتمعاتهم المسلمة، إن ما ‏يُسمع ويُشاهد على معظم القنوات الفضائية العربية والمستعربة لا ‏يمكن أن يخرج عن ذلك، والمحزن أن آثاره الضارة والسلبية ماثلة ‏وظاهرة، تطالعنا بها الصحف كل يوم، ما بين علاقات غير شرعية، ‏وما يتبعها من جرائم ومصائب، وعنف وإرهاب جنسي، وارتفاع ‏معدلات الطلاق والتشتت للأسر والأطفال، ولا يزال القائمون على ‏تلك القنوات في غيهم.‏
أمتنا منهكة و مثقلة بالجراح، وتئن تحت وطأة التخلف والفقر، وبدلاً ‏من تسخير تلك القنوات والوسائل لإحداث نهضة حقيقية لها، وزيادة ‏معدلات الإنتاج والتقدم العلمي والاقتصادي، نظل في تركيز جرعات ‏الترفيه والتخدير والإغراق في الشهوات.‏
إن الله عز وجل يقول (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ‏آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ‏وأسأل الله العلي العظيم أن يهديهم، أو أن يرد كيدهم ومكرهم إلى ‏نحورهم وأن يحفظ أمة الإسلام، وأن تكون أموالهم التي ينفقونها ‏ليصدوا عن سبيل الله حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.‏

المدينة / الاثنين 25/7/1429هـ