زمزم .. ورؤية تأملية ..

كثيرا ما لا ينتبه المرء بما حباه الله تعالى من نعم، وكثيرا ما لا يعمل المرء عقله وفكره في ما يحيط من آيات وعجائب تشهد بقدرة الخالق، ناهيك عن وجوده ورحمته بمخلوقاته. ولا يخفى على أحد ما حبانا الله تعالى به من نعم، نستمتع بها عبر القرون، ولا نوليها ما تستحق من تفكير وتدبر، تماما كمن يسكن إلى جوار الحرم المكي الشريف ولا يرتبط وجدانيا بالصلاة فيه، فالمشهد لا يؤثر في أحاسيسه ومشاعره لكثرة رؤيته له، ولأمله في الأجل وطول العمر والأماني الخادعة، حيث يردد بداخله دائما: «الجايات أكثر»، «والحرم قريب»، «وعندما نتفرغ من مشاكل الحياة، سنولي وجوهنا قبل الحرم ونعيش فيه إياما»، وهو لا يدري أن الموت قد يأتي وهو يفكر هذا التفكير، وقبل أن يرتد إليه طرفه.

راودتني هذه المشاعر والأحاسيس وأنا أتأمل «زمزم» وما تحمله هذه البئر من آيات ربانية، غفل عنها الكثيرون، وعبر وعظات كفيلة بأن تدخل الإيمان إلى أعماق القلوب. فالعلماء يقدرون زمن وجود إبراهيم الخليل عليه السلام بالقرن الثامن عشر قبل الميلاد، أي حوالي 1800 سنة قبل 2012 نعيشها بعد الميلاد، وهذا يعني أن عمر بئر زمزم قد اقترب من أربعة آلاف سنة. تخيل معي«أربعة آلاف سنة يرتوي البشر من بئر لم ينضب ماؤها بعد، فأية آية عظمى كهذه الآية التي لا تعكس فقط قدرة الخالق سبحانه وتعالى، بل فيها أيضا ما يبعث الطمأنينة والاستقرار النفسي والوجداني، في قلوب ونفوس هؤلاء الذين قد يتطرق الشك إليهم ويخشون «نفاد» الأرزاق، وانعدام الأقوات. إن بئر زمزم لا تمثل شيئا يذكر في ملكوت الله تعالى الذي يزخر بالآيات الأشد إعجازا، لكنها مع ذلك تمثل إعجازا حقيقيا بمعنى الكلمة، فلا نعرف بالعقل البشري منبعها، ولم تتغير خصائصها أو تنتهي صلاحية استخدامها كمياه للشرب والارتواء، ويكفي أن تنظر إلى زجاجات المياه المعبأة التي تباع في الأسواق كمياه معدنية أو طبيعية، وقد سجل عليها تاريخ انتهاء صلاحيتها. صدقوني، نحن جميعا لا نفكر، أو لا نعطي هذه الآية الربانية حقها من التفكير والتدبر، كما لم نستغلها بعد الاستغلال الأمثل لإثبات القدرة الإلهية، وإقناع الملايين في العالم بأسره على وجود الله تعالى وقدرته. وصدقوني أيضا، لو امتلك العالم النصراني أو العالم اليهودي آية واحدة تضارع آية بئر زمزم، لاستغلوها من أجل التبشير بدينهم، وإقناع العالم بصدق كتبهم ودياناتهم. لا أدري سبب تلك الغفلة التي نعيشها ويعيشها المسلمون هل هو قصور في التفكير؟ .. هل شغلتنا أموالنا وأولادنا وأنفسنا؟.. هل أسقطنا فريضة إعمال العقل أو الدعوة ـ وأقصد هنا دعوة غير المؤمنين من الوثنيين والملحدين وأتباع الملل والنحل ـ إلى عبادة الإله الواحد، الخالق والقادر؟ إن استمرارية تدفق مياه زمزم عبر هذه القرون، وارتواء الملايين سواء في الماضي أو الحاضر، لأكبر دليل على أن خزائن الله تعالى لا تنفد، بل إن تفجر هذه البئر منذ أيام هاجر عليها السلام، لوليدها ولها، لأكبر دليل على أن الله تعالى لا يخذل من يلجأ إليه، إذا أخلص النية، وصدق الإيمان، عبر كثيرة يمكن أن نستقيها من زمزم مع مائها، لإصلاح أحوالنا، بعد أن أصبحنا نعيش عصرا يتصارع الابن مع ابيه، والأخ مع أخيه، مع أن الخالق جل شأنه قد أنبأنا في كتابه بأنه «هو الرزاق ذو القوة المتين». أعتقد أننا بحاجة لاستراحة قصيرة من التفكير في «جمع المال» وفي «إنفاقه» لنوجه هذا التفكير إلى ما فيه تحقيق للاستقرار النفسي والوجداني لنا، وللأمة جمعاء. وسبحان الله تعالى عما يصفون.

عكاظ 1433/2/17هـ