حمامة مكية طارت بعد أن علمتنا الأمل..
كانت ريما شابة مدهشة بكل معنى الكلمة وبرغم مرضها فهي مصورة ومصممة إنترنت ورسامة موهوبة، ومتخصصة في رسم شخصيات الرسوم المتحركة اليابانية والمعروفة بـ"أنمي"، وفوق ذلك كانت تعمل مساعدة طبيب أسنان
هل يمكن أن يبكي المرء بمرارة على وفاة أشخاص لم يعرفهم ولم يسمع أصواتهم أبداً؟ هل يمكن أن يستشعر ألم المرارة والفقد لغياب شخص بعيد؟ بالطبع يمكن على شرط أن يكون هذا "الغريب - القريب" فرداً استثنائياً نجح في حياته، أو حتى بذكراه الطيبة بعد وفاته، في أن يؤثر فيمن حوله ويمس شغاف قلوبهم. قليلون هم هؤلاء القادرون على صناعة هذا التأثير الذي يشبه السحر، خاصة إذا كانوا من الأشخاص الذين يعيشون خارج دائرة الضوء..وريما رضا نواوي (٢٨ عاماً) واحدة من هؤلاء الأشخاص النادرين.
ريما فتاة سعودية من مكة المكرمة، بعد تخرجها من الثانوية قبل عشر سنوات وصلتها الأخبار المزعجة: أنها مصابة بالمرض الخبيث، وقد خاضت ضد هذا المرض معارك عديدة وجربت أنواعاً مختلفة من العلاجات الإشعاعية والكيماوية والعمليات الجراحية، والمعارك بينهما كرٌ وفر.. مرض يعقبه فترات نقاهة وذلك لمدة عشر سنوات. ثم قررت ريما وعائلتها الذهاب إلى الصين للعلاج، فتبين أن رئتها اليسرى لم تعد تعمل وسيتم علاجها بالكيماوي، وأمضت بعض الوقت هناك قبل أن تعود للوطن قبل بضعة أشهر، ثم اضطرت للسفر من جديد لكنها عادت من هناك واهنة جداً هذه المرة. والخميس الفائت لفظت ريما أنفاسها الأخيرة بعد أن نطقت بالشهادتين، رحمها الله تعالى وأعظم أجر أهلها ورزقهم الصبر والسلوان.
وبالرغم من أن قصتها محزنة، خاصة أنها غادرتنا وهي في ريعان الشباب، إلا أن هذا ليس هو السبب الذي جعلني أكتب عنها، فلم تكن المصابة الوحيدة بهذا المرض الخطير، ولا هي أصغر الأرواح التي حصدها طاعون العصر، فلماذا إذاً نتحدث اليوم عن ريما؟
كانت شابة مدهشة بكل معنى الكلمة، فهي مصورة ومصممة إنترنت ورسامة موهوبة، ومتخصصة في رسم شخصيات الرسوم المتحركة اليابانية والمعروفة بـ"أنمي"، وفوق ذلك كانت تعمل مساعدة طبيب أسنان. وكلها أمور كانت تقوم بها بسعادة وحماسة وإقبال في الوقت نفسه الذي تعاني فيه من المرض العضال أو في أوقات النقاهة القليلة التي يسمح لها فيه الوحش بأن تفلت من قبضته.
ريما أو (ريكس توما نواتو) كما كانت تسمي نفسها، ولعل ذلك من ولعها باليابان واللغة اليابانية، كانت شابة مؤمنة راضية بقضاء الله، مليئة بالطاقة والحيوية ولديها مخزون فائض من الأمل وحب الحياة كانت توزعه على كل من حولها، وكان شعاعها يصلنا رغم أننا لا نعرفها سوى من خلف الشاشة من خلال الشبكة الاجتماعية "توتير"، بعد أن عرفنا عليها الأستاذ نجيب الزامل الذي كتب عنها مقالاً رائعاً في "الاقتصادية" في رمضان الفائت بعنوان: " ريما: ما زلتُ أحب الحياة!"..قال فيه: "عرفتم لماذا أكتب لكم عن ريما، ليس لأنها حالة فردية، بل لأنها إلهامٌ جماعي. فأنا الذي تواصلت معها في البداية، غيرتني بعد أن أنهيت معها المكالمة، لقد شُحِنتُ بأعماقٍ أبعد لمعاني الحياة والإيمان والتفاؤل عندما تكون محكاً أمام سيول الألم. ريما علمتني: ''من لم يذق الألم فهو لم يعرف لذة الحياة..'' يا الله!".
قام مجموعة من الشباب الطيبين والفتيات الرائعات بتنظيم حفل استقبال صغير لها في المطار عند عودتها ما قبل الأخيرة من الصين، وكم فرحت "رحمها الله" بهذه المفاجأة فرحاً عظيماً، ومن يبحث عن اسمها على موقع "اليوتيوب" سيشاهدها في صالة المطار على كرسيها المتحرك، ومع أن النقاب يخفي وجهها إلا أن عيونها كانت تضج بالسعادة والمرح..كانت عيونها كما وصفها أحد الزملاء تضحك!
هذه الفتاة التي تعلمت كيف تتعايش ليس فقط مع المرض، وإنما مع الموت الذي كان يرفرف حول روحها اليافعة في وقت مبكر جداً من حياتها، أخذت تعلمنا - نحن الأصحاء- كيف نعيش حياتنا ونستمتع بها، وألا نجعل من العراقيل الصغيرة أحجار عثرة في طريق سعادتنا وتحقيق أحلامنا. تواصل معها الشباب والبنات عبر الموقع، لأنهم ظنوا أنهم بذلك ربما يساعدونها ويواسونها..فاكتشفوا أن ما حصل هو العكس! فهي التي كانت تخفف عنهم وتحثهم على ألا ييأسوا ولا يستسلموا.. فأي شمس طيبة سكنت ذلك الجسد الضعيف فاستطاعت أن ترسل أشعتها لتغمر الجميع؟
دخلت حساب ريما على موقع "تويتر" لاقتبس من حروفها التي مازالت باقية هناك فوجدت الكثير من الأقوال الجميلة، تقول:"ما أجمل أن تلبس أخلاقك وتتعطر بابتسامتك حتى عندما يكون منظرك غريباً وغامضاً عند الآخرين تجد هذا الحاجز يتلاشى وترى السعادة بهم " وأيضاً: " سبحان الله لا إله إلا الله حتى الإحساس بالألم نعمة كبيرة واحنا نعتبرها من الابتلاءات.. بدونها كان آذينا نفسنا واحنا ما ندري".
من الصدف المحزنة هي أن وفاة ريما في الليلة ذاتها التي توفي فيها الأديب والكاتب السعودي الكبير عبدالكريم الجهيمان يرحمه الله، ماتت ريما وهي على سلم العشرين ومات الجهيمان بعد أن بلغ عمره قرناً كاملاً من الزمن، وكلاهما علمنا في حياته الشجاعة وترك بعده أفضل الأثر..وهو الذكر الحسن الذي جعل الملايين يترحمون عليهما وسيرون قصتهما للأجيال القادمة، وبموتهما ندرك أنه ليس مهماً كم يبلغ عمر حياتك على هذه الأرض وإنما بما تصنعه لنفسك وللآخرين في هذه الحياة..فأي مساهمة ستقوم بها لإعمار الأرض؟ وكم من العقول والقلوب ستلامسها روحك وتغيرها للأفضل قبل أن ترحل؟
في زمن النجوم المزيفين وصناع البطولات الوهمية والنفوس التي أنهكها الجري خلف الأضواء، تبرز ريما.. الشابة السعودية الجميلة، ابنة البلد الحرام والمغردة المتفائلة، التي أسعدت متابعيها بضحكها ومرحها وإقبالها على الحياة، والتي تستحق وسام الشجاعة لصبرها وإيمانها.. فقد قاتلت بضراوة حتى آخر رمق من حياتها فهزمت المرض بالأمل وعلمتنا نحن كيف نحب الحياة..كانت تلك هي الرسالة التي حملتها إلينا الحمامة.. وبعد أن أدت أمانتها رفعت جناحيها وحلقت باتجاه السماء..وهي تقول: "اشتقتُ لربّي".
الوطن 1433/1/12هـ