من باب الدريبة إلى العالم الفسيح

الخميس 01/12/2011
خالد عباس طاشكندي

قبل مئة عام وُلد الأديب المكيّ الرحّالة محمد عبدالحميد مرداد (1332هـ - 1415هـ) -يرحمه الله- بالقرب من باب (الدريبة) أحد أبواب المسجد الحرام بمكة المكرمة، حيث وُلد في منزل والده الشيخ عبدالحميد، الذي كان من أئمة المذهب الحنفي بالمسجد الحرام، وقد ورث والده هذا المنزل -الذي شُيّد في عهد الحكم العثماني- من جدّه عبدالمعطي مرداد -يرحمه الله- شيخ الأئمة والخطباء في عهده.
الأديب الراحل لديه عدد من المؤلفات في مجالات الكتابات الأدبية، واللغوية، والتاريخية، والجغرافية، والكتابات الإسلامية، وكان من أهمها كتابه الأخير «رحلة عمر» 
-محور مقال اليوم- وهو الكتاب الذي دوَّن فيه مسيرة حياته ورحلاته حول العالم، وهي الهواية التي مارسها طيلة حياته، وسردها باحترافية في «رحلة عمر»، مجسّدًا سردًا قصصيًّا لحياته ورحلاته حول العالم الذي جابه شرقًا وغربًا منذ منتصف القرن الرابع عشر من الهجرة، وحتى العقد الأول من القرن الخامس عشر من الهجرة.
كتاب «رحلة عمر» طبعة نادي مكة الأدبي عام 1410هـ في 565 صفحة من القطع المتوسط بنسخة «غير مكتملة»، حيث ذكر الكاتب محمد بن عبدالله الحمدان في جريدة (الجزيرة) بتاريخ 23 يونيو الماضي بأن كتاب «رحلة عمر» جاء في غلافه أنه المرحلة الأولى من رحلاته داخل المملكة، وفي الأجزاء اللاحقة ستكون رحلاته خارج المملكة، وتساءل الحمدان: «لا أدري متى يقدّر لها الخروج بعد هذه المدة الطويلة من الانتظار؟».
ولم يكن الأستاذ الحمدان وحيدًا في التساؤل عن تكملة كتاب «رحلة عمر» الذي ناقشه العديد من الأدباء والمفكرين في عدد من الندوات والمنتديات الأدبية خلال السنوات الماضية التي تلت الطبعة الأولى من الكتاب، ومنها ما طرح في إحدى اثنينيات عبدالمقصود خوجة، و»ملتقى النص» بنادي جدة الأدبي الثقافي في 2008م حين قدمت الدكتورة صلوح السريحي قراءة في هذا الكتاب، بالإضافة إلى ما طرحه الكاتب عبدالله الحيدري في الطبعة الثانية من كتابه «السيرة الذاتية في الأدب السعودي».
هذه الطروحات والتساؤلات عن كتاب «رحلة عمر»، وتكملته دفعت أسرة الأديب الراحل إلى إعادة طباعة الكتاب مطلع الشهر الجاري مجددًا عن المرحلة الأولى من رحلته؛ رحلة العمر، أو رحلة الطفولة والصبا، وهي مرحلة الثلث الأول من العمر حتى إتمامه عشرين عامًا، وما شوهد فيها من عجائب الكون حتى لحظة ركوبه الباخرة التي توقف عند مشهدها الجزء الأول بـِ (112) رحلة قضى معظمها مع المرضعة والخالة، والشيخ بكر كمال -يرحمه الله- الذي كان قاضيًا للمحكمة الكبرى في الطائف، وخاض معه في أحد الأعوام 36 رحلة.
وكتبت ابنته السيدة نوال مرداد مقدمة الطبعة المُحَدَّثة والمعدلة، وذكرت من ضمنها أنه كان يكتب لها رسائل قصيرة عن رحلاته زمن الكهولة، من أمريكا الجنوبية والشمالية، وإفريقيا، وآسيا، وأستراليا، وهي مناطق زارها وهو شاب يافع، ثم زارها في كهولته ليقف على المتغيرات.
في النسخة الحديثة من «رحلة عمر» يقول الكاتب -رحمه الله- في فاتحة رحلته: «خلقت رحالة»، ومنها شرح للقارئ كيف بدأت رحلته بالحل والترحال منذ ولادته التي أتت بعد رحلة مخاض صعبة أتعبت والدته التي مرضت، وهو ما دفع والده بالرحيل به إلى قرية الزيمة بناءً على نصيحة من صديقه السيد محمد زيني دحلان (أحد أئمة الشافعية بالمسجد الحرام آنذاك) قبل اليوم السابع من ولادته، حيث أودعه عند القناوية أمراء الزيمة، وقاموا بإرضاعه مع فلذات أكبادهم.
ويقول الكاتب -رحمه الله- ضمن سيرته الذاتية، إنه تخرّج في قسم حفاظ القرآن الكريم في مدرسة الفلاح بمكة المكرمة، والتي تخرج فيها عام 1350هـ، وقام بعدها بالتدريس في الفلاح والفخرية لمدة عامين، مع القيام برحلات داخلية، وفي العام 1353هـ قام برحلة إلى الهند، وبورما، وسيلان، وسام، والفلبين، واليابان، وجزر الهند الشرقية، ثم انتدبه محمد علي زينل -يرحمه الله- مديرًا لمدرسة بازرعة بعدن، ومنها انطلق برحلات إلى إفريقيا جنوبًا وشرقًا، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فعاد وعُيّن مديرًا للمدرسة السعودية بمكة المكرمة، وأستاذًا للأمير منصور بن عبدالعزيز -يرحمه الله- ثم استقال وعاد إلى إكمال رحلاته حتى وفاته بالقاهرة -رحمه الله- في السابع عشر من شعبان للعام 1415هـ.
تكملة كتاب «رحلة عمر» سوف تصدر قريبًا، ويسرد فيه الكاتب رحلة عمره منذ ركوب الباخرة عام 1353هـ، مغامرات لا أول لها من آخر، ضمن سلسلة من مئات الرحلات نشر أجزاء منها في مجلة (المنهل) الثقافية التي أسسها الأديب الراحل عبدالقدوس الأنصاري -يرحمه الله- عام 1937م، ومن ضمن تلك الرحلات المثيرة (رحلة الإسكيمو) حين سافر من الدانمارك إلى جرينلاد بالقرب من القطب الشمالي، ومنها إلى بلاد الإسكيمو كأول رحّالة سعودي تطأ قدمه هذا القطر من العالم، ووثَّق خلالها في «رحلة عمر» وصفًا مفصلاً عن حياة الإسكيميين وحضارتهم شاملاً التعليم والعمران، وثقافة المجتمع، أمّا في رحلته لسور الصين العظيم فقد مرّت بمخاطر شديدة تسببت في إصابته، وأجبرته للبقاء هناك فترة طويلة للعلاج.
لقد أبحرتُ كثيرًا مع مغامرات جدّي لأمي محمد عبدالحميد مرداد -يرحمه الله- والذي ترك لنا إرثًا ضخمًا وثمينًا من الأعمال الأدبية، وآخر ما تبقى منها هو كتاب «رحلة عمر»، الذي اجتهد والداي -أطال الله عمرها- بإعادة طباعة الجزء الأول، وسوف أسعى أن أبر بجدي، وأكمل ما تبقى من تلك الملحمة الإنسانية الفريدة التي رسمها أحد أشهر الرحّالة السعوديين في القرن الرابع عشر الهجري بشهادة النقاد.

 

جريدة المدينة - 6 / 1/ 1433هـ .