مكة المكرمة ما يغلى عنها شيء .. و لكن !!
كتب الصديق العزيز الدكتور زهير كتبي مقالاً نُشر في صحيفة عكاظ بتاريخ 12/12/1432هـ بعنوان مكة المكرمة و آل الشربتلي ، توجه فيه إلى السيد عبد الرحمن شربتلي ، و جاء فيه: « إن مكة المكرمة يا سيد عبد الرحمن في حاجة ماسة لتبرعات عينية ملموسة، يلمسها أهل مكة المكرمة ويشاهدونها ويستفيدون منها مباشرة مثل عمل مراكز غسيل كلى، وعمل مستوصف خيري لفقراء الجمعيات الخيرية. ونريد مدارس ودعم المؤسسات المجتمعية مثل نادي مكة الثقافي .. نريد منكم دعم نادي الوحدة الرياضي، فمن فيه من الشباب هم من أبناء مكة المكرمة. نريد .. ونريد .. ونريد ..» انتهى.
فدار بيني و بين الصديق د. زهير حوار سريع حول مقاله قلت فيه أن مكة المكرمة أرفع و أعظم من أن يُتسول لها فتُعطى أو تُمنع ، و لعلنا في حاجة إلى التأمل و التفكر في تراجع مؤسسات مكة المختلفة عبر العقود الماضية بسبب هجرة العديد من أهلها و أكابرها و أبنائهم و الذي أعزوه أنا إلى انتقال الحكومة و الوزراء إلى جدة و الرياض بل وحتى مدراء إدارات المنطقة وهو ما أدى إلى شح فرص العمل و الترقية و إلى ضعف أسواقها و تجارتها و بالتالي المزيد من هجرة أهلها!! فمكة بعد أن كانت مركزا للتجارة العالمية منذ ما قبل الإسلام ، و أثرى الأسواق بعده كما جاء في رحلة ابن جبير في القرن السادس الهجري حيث يقول فيما معناه أن في أسواق مكة من التجارة ما لو وزع على أسواق الأرض لأنعشها -بعد هذا- أصبحت أسواق مكة و ربحية تجارتها أقل من جدة فقط ناهيك عن الرياض و الشرقية و غيرهما. و أضفت: إننا في حاجة إلى دراسة هذا الأمر بعناية و المطالبة بتصحيح الوضع لأنه لا يليق بمكة المكرمة التي أرادها الله أن تكون أماً للقرى أن تتسول مساهمات أهلها و غيرهم ، و الأهم يا صديقي أن مثل هذه المساهمات لن تجدي ، ما لم تتم معالجة الأسباب التي أدت إلى ذلك.
طبعاً الصديق د. زهير أبدى احترامه لوجهة نظري و وافقني في بعض ما قلته ولكنه كعادته الحميدة دافع عن وجهة نظره بروحه القتالية ، و بأنه لن يتوقف عن مطالبة أثرياء أبناء مكة بالقيام بواجبهم و مسئولياتهم الاجتماعية تجاه مكة وهو محق في ذلك و مأجور بإذن الله.
و في نهاية الأسبوع الماضي نشرت الصحف مقولة لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله نقلها سمو الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ، حيث خاطب سموه أعضاء اللجنة التنفيذية لمشروع الملك عبد الله لإعمار مكة قائلا: (الملك يقول لا شيء يغلى على مكة المكرمة) و عناية الملك بمكة لها شواهد عديدة منذ أن كان ولياً للعهد ، بدءًا من وصيته لأمرائها بأهلها خيراً ، و مروراً بأوامره المتتابعة بإنجاز العديد من المشاريع العملاقة و التي من طلائعها مشروع الخيام المطورة في منى في عام 1418هـ ، و توسعة المسجد الحرام ، ووقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين ، و جسر الجمرات ، و قطار المشاعر ، و قطار الحرمين ، و مؤخراً ما سُمي بمشروع اعمار مكة المكرمة ، كذلك تأسيس الهيئات العليا لتطوير مكة المكرمة ، بل لخادم الحرمين عناية حتى بمؤسسات مجتمع مكة المكرمة مثل جريدة الندوة و الغرفة التجارية و نادي الوحدة.
إن تراجع مستويات أداء مؤسسات مكة المكرمة الحكومية و الأهلية و أسواقها مقارنة بنظيراتها في المدن الرئيسية الأخرى ، لم يأت من فراغ ، وله أسبابه ، و ينبغي علينا الانشغال بالتعرف على هذه الأسباب و معالجتها ، و بغير ذلك ستظل نتائج الجهود و الأموال التي تُبذل دون المستويات المرجوة.
و أنا لي رأي في سبب ذلك و لا أزال متمسكاً به إلى أن يثبت بطلانه ، و هو أن ذلك التراجع بدأ منذ عدة عقود عندما تم نقل العديد من الإدارات منها، وبالتالي انتقال كل الموظفين في الحكومة و الإدارات منها بمن فيهم النخبة – الوزراء و مدراء العموم- إلى غيرها و هو ما شكل ما يمكن تسميته بهجرة عكسية للنخبة ، و النخبة هم العقول ، و العقول المكية عندما هاجرت بإبداعاتها و قدراتها ، أسهمت في تطوير المدن التي هاجرت إليها و تبوأت فيها مواقع رفيعة ، و شواهد ذلك عديدة.
و لحسن الحظ أن سمو أمير المنطقة يؤمن بأن نجاح أي تنمية أو تطوير لأي مدينة أو مجتمع ركيزته الإنسان ، و لذلك كانت رؤيته في الخطة الإستراتيجية للمنطقة (بناء الإنسان و تنمية المكان) ، و لذلك فإن كل المشاريع التطويرية في أي مدينة لن تؤتي أكلها ما لم تعن بإنسانها ، و من أهم أسس هذه العناية هو أن يتهيأ له من الفرص و الخدمات و الاحتياجات المختلفة ما يستبقيه فيها ، و يعينه على خدمتها و تنميتها و تطويرها ، حتى لا يهجرها إلى أماكن أخرى -لأن البعض هجرها بحثاً عن خدمات تعليم و صحة أفضل- ، و كذلك أن يتم إشراكه في التخطيط و التنفيذ لهذه المشاريع.
و إشارتي لهذه الجزئية الأخيرة و هي المشاركة في التخطيط و التنفيذ لمشاريع التطوير هي من معرفتي بأن التخطيط للمشاريع الكبرى لتطوير مكة المكرمة لازال يتم بعيداً عن مشاركة المعنيين بها من أهلها ، فعلى سبيل المثال عندما سألت من حولي لمعرفة مدى مشاركة إنسان مكة في مخططها العام الذي أُعلن عنه خلال السنة الماضية ، وجدت أنه لا قيادات العمل التنفيذي في أمانة العاصمة و لا العلماء الأكاديميون في جامعة أم القرى ، و لا رجال الأعمال في الغرفة التجارية ، و لا الأعيان ، و لا المطوفون المعنيون بأهم الأعمال التي تقدم في مكة في موسم الحج لديهم معرفة بالمخطط فضلاً عن مشاركتهم في وضعه ، و هذا الأمر في تصوري غير صحيح و سيؤدي إلى تعثر تنفيذ المخطط و إخفاقه في تحقيق أهدافه الإستراتيجية. فالواجب الانفتاح على المجتمع -عبر آليات عديدة متاحة- و إتاحة الفرصة له للمشاركة في صياغة مثل هذه القرارات (المشاريع) الكبرى ففي ذلك الخير و في ذلك ما هو أقرب للصواب و النجاح. و الله ولي التوفيق.
جريدة المدينة - 23 / 12 / 1432هـ