"كأنك معه".. رحلة على طريق النسك النبوي

"كأنك معه".. رحلة على طريق النسك النبوي

"كأنك معه".. معرض عملي لنسك الحج، فيه التعليم بالكلمة والتعلم بالقدوة.. لكن القاسم المشترك هو "التسهيل والرحمة، وسعة الرخص" فما أحوجنا نحن اليوم لهذا المنهج

 

 

"كأنك معه". كتاب قليل الصفحات غزير النفحات، تتجلى فيه سعة الإحاطة السالمة من عيوب الإطالة. و تبرز فيه دقة الاختيار مع الانحياز إلى الثابت من النصوص، فلا جدال يفسد عذوبة الاتباع بل سلسل مغموس في نور المحبة والأنس باستحضار مشاهد الركب النبوي على طريق الحج.. إنه معرض لنسك الحج مستخلص من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، النابع من نهر الرحمة والتسامح والرفق، ليس فيه من تفريعات أهل الفروع ما يكدر أو يكبل أو يعقد.
والمؤلف الدكتور عبدالوهاب بن ناصر الطريري محب للمصطفى صلى الله عليه وسلم وقد فاضت محبته على لغة هذه الرحلة، فلا يشعر قارؤها بوعثاء الكتابة ولا جفاف البحث، بل بوح رقراق مسلسل خافض جناح الذل لمقام النبوة، مستحضراً وحدانية الخالق الآمر باتباع الهدي النبوي على بصيرة.. هذا الحب المقتدي جعل حروف وكلمات هذه الرحلة هامسة رقيقة حانية تستلهم الخلق الكريم في تأليف القلوب واستعطاف المشاعر، رحمة بأهلها وإشفاقا بالمؤمنين.. هذا الحب وهذا الاتباع جعل هذا الكتاب الجميل معرضاً للنصوص الثابتة في الكتاب والسنة، فلا تطويل ولا تفريع يشغل القارئ أو يجعله في موقف المتردد بين الفاضل والمفضول. 
"كأنك معه".. مشهد متتابع لما في كتب السنة والسيرة من أخبار متواترة عن حجة الوداع منذ اللحظات الأولى، حيث جاءت الوفود والقبائل لتحظى بمرافقة نبي الهدى والرحمة.. وفي غمرة العاطفة الجياشة ووجيب القلب المحب المتأسي لا يفوت العقل المتدبر أن يقارن ما بين رحلة الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة والرفيقان يتسللان في جنح الظلام، ومسارب الأودية وصخور الحرار، حتى لا تدركهما أعين قريش وحلفائها، وبين رحلة الحج إلى مكة المكرمة على رؤوس الأشهاد، وقد جاءت القبائل من كل حدب وصوب لتتشرف برفقة نبي الرشاد والرحمة.. إنها صورة يستحضرها العقل المحب لتذكير قارئها بأن الله أراد لهذا الدين أن يتجاوز لحظات القلق والخوف يوم جاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، هادياً البشرية، وأن يبقى ديناً قيما إلى يوم يبعثون.. فلا خوف ولا قلق عليه، بل كل الخوف والقلق على أهله إذا غابت عنهم معالم طريقه. 
كانت القبائل على طريق الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة "تتكالب" لإطفاء نور الإسلام ووأد طفولته في مهدها. وها هي اليوم في حجة الوداع على الطريق نفسه تحيط جلال النبوة ونور الهدى بمشاعرها، تحميه دون عرضها ومالها وأولادها. "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". اختلاف المشهد، من إدبار الناس وإقبالهم لم يغير المبادئ بل زاد الخلق الكريم تواضعاً وإشفاقاً ومحبة لأصحابه.. هاهو القائد النبي على راحلة لا تمتاز عن رحال رفاقه.. يقول جابر رضي الله عنه "نظرت مد بصري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به".
"كأنك معه" رحلة حج بلا تعقيد ولا تأثيم، ظاهرها البساطة – في كل شيء – وباطنها الرحمة والرفق النابع من تعاليم دين الفطرة المسترشد بالقرآن؛ يأتي به جبريل: "يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج". ترتفع الأصوات مستجيبة للنداء فيتشكل جسر روحي تصعد به الكلمات الطيبة إلى السماء، وتتبدى أطياف الأنبياء لسيد البشر على طريق الحج، فيرى نور الحقيقة المتصل برسالة الأنبياء.. على هذا الطريق تلتقي أطياف سبعين نبياً سلكوا "فج الروحاء" وعلى ثنية "هرشى" تترائى صورة نبي الله يونس بن متى على "ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف".. وفي وادي الأزرق يطوف خيال موسى عليه السلام على "جمل أحمر مخطوم واضعاً أصبعيه في أذنيه ملبياً".. وفي وادي عسفان تتوارد صور هود وصالح على "بكرات حمر خطمها الليف"، يالها من شعيرة تستدعي عمق التجربة وترصد أصالتها وتجذرها في عقيدة الأمم.
"كأنك معه".. معرض عملي لنسك الحج، فيه التعليم بالكلمة والتعلم بالقدوة.. لكن القاسم المشترك هو "التسهيل والرحمة، وسعة الرخص" فما أحوجنا نحن اليوم لهذا المنهج حيث الزحام وازدياد الحجاج عاماً بعد عام.. رأى النبي، صلى الله عليه وسلم رجلاً يمشي حافيا وقد أرهقه المشي ونعاله على البدنة، فقال له: "اركبها" قال إنها: بدنة، قال له: "اركبها ويلك".. فهذا درس لمن يتشدد ويرهق نفسه، ويجعل منها معياراً للشرع.. و"كأنك معه".. مجموعة دروس في الأخلاق والكرم والتعامل مع الأهل والخدم والرعية، والإشادة بالمحسنين ومراعاة مشاعر الناس وتعليمهم بالتي هي أحسن وأرفق وأوفق.
(الكتاب من إصدارات مؤسسة الإسلام اليوم) وهو جدير بالاقتناء لمن أراد أن يشرب من النبع الصافي، ولا يظلم نفسه بحبسها على موائد الاجتهادات الفقهية.

 

جريدة الوطن - 3 / 12 / 1432هـ .