أرادها الله أماً للقرى ، ولا نريد أن تتحول إلى محطة عبور!!

المدينة/الاثنين, 14 يوليو 2008
 
الدراسات الحالية متجهة إلى تفريغ المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام من السكان الدائمين لصالح الحجاج والمعتمرين ، وهذا في تصوري خطأ جسيم يرتكبه المخططون ، ويتعاظم هذا الخطأ في مدينة أرادها الله أن تكون أماً للقرى
المشرفة مكة ، زادها الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة وأمنا ورفعة ، أرادها الله أماً للقرى ، إلاّ أن البعض يريدون أن يحولوها إلى محطة عبور للمسافرين (ترانزيت) ، من خلال مطالبتهم بإخلائها من أهلها ، ومنهم الأستاذ عبد الله أبو السمح ، الذي طالب في مقاله ، الذي نُشر السبت 2 رجب الجاري بصحيفة عكاظ ، -و هي ليست المرة الأولى- بإنشاء قرى محيطة بمكة المكرمة ، وخارج حدود الحرم ، بأبعاد لا تقل عن ثلاثين كيلو مترا ليسكنها الصناع ومن تحتاجهم خدمات الحج.
والبعض يمارس فعلياً عملية الإخلاء من خلال إقامة المشاريع الربحية الرأسمالية ، القائمة على إزالة أحياء بأكملها وإعادة بنائها ، بعد أن يتم إخلاء جميع سكانها الدائمين ، ومن بينهم الأهالي ، وتحويلها إلى فنادق ومساكن للحجاج والمعتمرين وهم سكان عابرون مؤقتون.
إن المدن لا تحيا بدون أهلها ، وأعني بالحياة هنا الحياة الاجتماعية ، والثقافية ، والإنسانية بشكل عام ، وهذه ما تؤكده الدراسات والتجارب المتكررة للمدن الحديثة المكتملة البناء ، التي لا يشارك أهلها في تكوينها وتطويرها ، فهي مدن كئيبة ، ليس فيها حياة ، ومعظم سكانها وافدون إليها من خارجها ، وشعور غالبيتهم أن إقامتهم فيها مؤقتة ، وبالتالي لا يشعرون بأي مسئولية تجاهها إلا بمقدار تأثرهم بما يُقدم لهم فيها من خدمات ، وأما غير ذلك فلا.
و مكة المكرمة ، مهبط الوحي ، ومنطلق الرسالة السماوية الخاتمة ، وهي مدينة لها دور مهم في الدعوة إلى الله ، وفي إيصال رسالته عبر حجاجها إلى البشرية قاطبة ، ومدينة بهذه الصفات وهذا الدور لا يمكن أن تنهض بدورها دون هوية وشخصية مؤثرة ، وهذه الهوية والشخصية لن تتشكل بدون أهلها ، الذين أول من أسكنهم فيها ، ودعا لهم ، هو أبو الأنبياء خليل الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأفضل من أوصى بهم هو سيدنا رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
و لعل الأستاذ عبد الله أبو السمح ومعه الفاعلون والمخططون لمستقبل هذه المدينة ، أن ينتبهوا إلى مسألة السكن وليس الزيارة ، فقد أمر الله جل وعلا خليله عليه السلام بإسكان أهله بمكة المكرمة ، الوادي غير ذي الزرع ، ولم يأمره بالزيارة ثم الرحيل ، كما يطالب البعض ، وكما يجري الآن من حيث لا نشعر ، فالكثير من المسئولين والمعنيين بالحج يطورون أفكارهم ومشاريعهم في مكة المكرمة على ما يتعلق بخدمة الحجاج والمعتمرين -
وهو أمر مطلوب وحسن- ولكنهم لو يوجهون نفس الاهتمام لما يتعلق بخدمة سكان المدينة ، الذين يُعول عليهم بعد الله ، في خدمة وإكرام هؤلاء الحجاج والمعتمرين.
إن سلوك من تحتاجهم خدمة الحجاج ، هو نتاج ثقافتهم ، وثقافة أي مدينة هي مكوِّن تراكمي ، يساهم في تكوينه جميع سكانها بمختلف فئاتهم ومشاربهم ، وهم يشكلون بمجموعهم نسيجها الاجتماعي بكل تنوعاته وأفعاله ، وكلما كانت ثقافة المدينة مميزة ، كلما كان انتماء أهلها إليها أقوى ، واعتزازهم بها وحفاظهم عليها أشد ، وبالتالي تأثيرهم أقوى ، ولا يُتصور أن يتشكل نسيج اجتماعي ، أو أن تتكون ثقافة مؤثرة لمدينة معظم سكانها مجموعات من السكان المؤقتين أو العابرين.
و يحضرني هنا ما أشار إليه معالي الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ، في كتابه (مكتبات باب السلام) حول زوال مجموعة من المرافق الحضارية ، والفعاليات الثقافية ذات البعد العالمي ، في منطقة باب السلام ، وعدم توفر البدائل برغم مضي أكثر من أربعة عقود على زوالها .
إن ضعف البنية التحتية في المنطقة المركزية ، وعلى الأخص الطرق ، أدى إلى إضعاف الحياة الاجتماعية والثقافية في مكة المكرمة ، لأنها تحولت بمرور الوقت إلى عامل طرد للسكان الدائمين ، لصعوبة حركتهم في المواسم ، وذلك ليس بسبب الأعداد الكبيرة للحجاج والمعتمرين –كما قد يدفع به البعض- ، وإنما بسبب عدم مواكبتها -وأعني الطرق- للنمو المطرد لهذه الأعداد ، وما يؤكد ذلك ما كان قائماً في الماضي من تواصل إنساني واجتماعي حميم بين أهالي مكة المكرمة وحجاجها ، ومن تفاعل ثقافي بين علماء البلد الحرام وعلماء العالم الإسلامي في مواسم الحج والعمرة.
إذن علينا أن ننتبه إلى أنه يجب علينا أن لا نبني خططنا على معطيات الواقع الحالي في غياب مسبباتها ، فالخطط والدراسات الحالية متجهة إلى تفريغ المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام من السكان الدائمين لصالح الحجاج والمعتمرين ، وهذا في تصوري خطأ جسيم يرتكبه المخططون ، ويتعاظم هذا الخطأ في مدينة أرادها الله أن تكون أماً للقرى.
وللأمانة ، لابد من الإشارة إلى أن الهيئة العليا لتطوير منطقة مكة المكرمة ، وقبل أن تنضوي تحت الهيئة الجديدة لتطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة ، قد اهتمت بهذا الجانب في مشاريعها التطويرية ، وخصصت حوالى 30% من مشروع الشامية للسكن الدائم ، وأدرجت في مخططاته ما يحتاجه السكان الدائمون من مرافق ، كالمدارس والمستشفيات وغيرها ، وهو ما يجب الالتزام به في جميع مشاريع التطوير.
وللحديث حول عوامل الجذب والطرد ، والمشكلات التنموية التي برزت في مكة المكرمة بقية.