زمزم ورمضان

من نعم الله الكبرى على أهل هذه البلاد المسلمة الطاهرة أنهم يفطرون على جرعات مباركة من ماء زمزم الطاهر، ومعها في كثير من الأحيان حبات من رطب أو تمر المدينة المنورة من العجوة أو سواها، بينما يتمنّى ملايين المسلمين حول العالم أن يحظوا ولو بقطرات من ماء زمزم المبارك في إفطارهم، وبحبة واحدة من تمر المدينة، وقد رأيت المسلمين في أقطار عدة خلال قيامي ببعض مهام هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية وهم يمزجون كوبًا واحدًا من زمزم بآنية كبيرة قد تصل إلى البرميل من المياه العادية؛ ليشرب الجميع منها تبركًا، فنحمد الله تعالى على نعمه علينا التي لا تُعد ولا تُحصى.

وتنسب بئر زمزم بمكة المكرمة إلى إسماعيل عليه السلام، إذ إن سيدنا إبراهيم عليه السلام لمّا هاجر بإسماعيل، وأمّه إلى مكة، وكانت ترضعه، وضعهما تحت دوحة، وليس لهما إلاّ القليل من الماء، ولم يكن بمكة يومئذٍ ماء. وبعد أن انطلق إبراهيم عليه السلام استقبل البيت، ورفع يديه، ودعا بالآيات (رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). ثم مضى، وجعلت أم إسماعيل ترضعه، وتشرب من ذلك الماء إلى أن نفد، فعطشت وعطش ابنها، وصار يتلوّى، وبعد أن قامت بالتنقل المعروف بين الصفا والمروة الذي هو أساس السعي في الحج، ثم بحث جبريل عليه السلام بجناحه حتى ظهر الماء، فصارت تعصره بيدها، وتغرف منه في سقائها، وهو يفور، وهذا أساس زمزم وبداية ظهوره المبارك في مكة.

أمّا في فضل ماء زمزم، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن طاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، وشرب من ماء زمزم غُفرت له ذنوبه)، وعنه صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شُرب له)، وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم)، وقال: (ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه)، وقال عليه السلام: (الحمّى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم).


ولزمزم أسماء كثيرة منها: زمزم، وسقيا الله إسماعيل، وبركة، وسيّدة، ونافعة، ومضنونة، وعونة، وبشرى، وصافية، وبرة، وعصمة، وسالمة، وميمونة، ومباركة، وكافية، وعافية، ومغنية، وغير ذلك كثير. وقد سمّيت زمزم لكثرة مائها، والزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع، وقيل سمّيت بذلك لزمزمة الماء، وهي صوته.
وقد شهدت زمزم منذ مئات السنين جهودًا خيّرة كثيرة لتسهيل سقياها للحاج والمعتمر والمسلمين بعامة، ولكن أهمها على الإطلاق مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لسقيا زمزم، هذا المشروع الضخم المبارك الذي أُنفق عليه مئات ملايين الريالات لتسهيل حصول المسلمين على عبوات زمزم عصرية ومعقمة، وعملية، وزهيدة التكلفة، ومتوفرة لكل الطالبين ليل نهار، دون أي عناء أو تعب، خلاف ما كان يحصل قبل ذلك من التزاحم، وخلاف ما كنا نعانيه من عدم نظافة (الجوالين) والغش الذي كان يمارسه بعض ضعاف النفوس. ورغم أن المشروع المبارك مضى عليه ما يقارب عامًا كاملاً، إلاَّ أنني اكتشفتُ أن كثيرًا من الناس لا يعلمون عنه، ومن عجب أن بعض أهل مكة أنفسهم لا يعلمون عنه، فقد كنتُ في مناسبة زواج بمكة جمعتني ببعض كبار المثقفين، وأخبرتهم بأنني ملأت سيارتي بعبوات زمزم النظيفة النقية، فأخذوا يسائلونني عن مكان التوزيع، وعزم كل منهم على زيارته بعد حفل الزواج، لذا أرى ضرورة الإشهار عن هذا المشروع الكبير الذي هو قيمة مضافة لمشروعات خادم الحرمين الشريفين غير المسبوقة في خدمة الحرمين الشريفين، جعلها الله في ميزان حسناته.

كما أقترح على القائمين على هذا المشروع المبارك أن تُنتج عبوات مختلفة الأحجام في المستقبل على غرار ما كان ينتجه مكتب الزمازمة الموحد، كعبوات اللترين، واللتر، ونصف اللتر، إضافة إلى عبوة العشرة لترات الحالية. لأن العبوات مختلفة الأحجام قد تكون عملية كثيرًا في استخدامات معينة.

كما أقترح عليهم أن يفكروا في آلية لإعادة تدوير العبوات بعد استخدامها، أو ما يسمّى عند الغربيين (Recycling)، كأن تحسم قيمة العبوة الفارغة من قيمة العبوة الجديدة لمن يسلمها للمصنع مجددًا، حتى لو كان ذلك ريالاً واحدًا، أو نصف ريال، أو ربع ريال، وذلك قد يوفر التكاليف على المصنع، كما يحفظ العبوات الفارغة من الامتهان، بأن تملأ بسوائل مختلفة كالبنزين، أو سواه، وعليها ملصق ماء زمزم، وقد رأيتُ ذلك بنفسي، أو أن تلقى في حاويات النفايات، أو على قارعة الطريق.

وأخيرًا أرى أن تُشدَّد الرقابة على بيع العبوات خارج المصنع، فقد رأيت المئات منها في محطات الوقود، وفي الخط السريع معروضة تحت أشعة الشمس، وقد تفسد، وقد يلجأ بعض ضعاف النفوس مجددًا إلى غشها.

كل تلك مقترحات تهدف إلى المحافظة على هذا المكتسب الحضاري الكبير، ونحن ندعو لمليكنا المحبوب، ونحن نرتشف كل رشفة من زمزم المبارك.

المدينة 1432/9/17هـ