لا فَكَّة مِن كِتَاب “الطَّريق إلى مَكَّة” ..!

وَعدتُ القُرَّاء بأن أكتُب عَن المَعلومات والثَّقافة والأشياء المُفيدة، وهَا أنَا أفي بوَعدي، وأُحرِّض عَلى قِرَاءة كِتَاب جَميل، بَل في غَاية الجَمَال، مِن حَيثُ السَّرد والصِّدق مَع النَّفس، وهَذا الكِتاب اسمه «الطَّريق إلى مَكَّة»، للمُستشرق النّمسَاوي «فَايس»، الذي أسلَم وسَمَّى نَفسه «محمد أسد»، وهَذا الكِتَاب مِن خَيرات الدّكتور عَدنان الثَّقافية عَليَّ، حَيثُ إنَّه رَجُل مفضَال؛ يَغمرني بكُلِّ مَا هو مُفيد وزلال..!

يَقول «محمد أسد» في سطُور كُلّها صِدق: (كَان أوّل لِقَاء لِي مَع «المَلك عبدالعزيز» في مَكَّة مَع بِدَايات عَام 1927م، كَان ذَلك بَعد اعتنَاقي الإسلام بعِدَّة أشهر، وكَان أيضاً بَعد مَوت زَوجتي المُفاجئ، حَيثُ كَانت بصُحبتي عِند أوّل حج لِي، وأحدَث رَحيلها المُفاجئ في نَفسي تَأثيراً شَديداً، شَعرتُ بالمَرَارة، واجتَنبتُ النَّاس، واعتَزلتُ كُلّ مَعارفي، حَاولتُ مِراراً أن أخرج مِن تِلك المَرحلة المُؤلمة مِن حَياتي، وأُنهي وحدَتي المُوحشة، كُنتُ أقضِي جُل وَقتي وَحيداً بمَسكني، مُتجنِّباً لكُلِّ البَشر إلَّا أقل القَليل مِنهم، وعَلى مَدى أسَابيع طَويلة لَم أقُم بزيارَة مُجاملة للقَصر)..!

والكِتَاب يَصف رحلَة «محمد أسد» بأسلُوب بَديع صَادق، وُفِّق الأستاذ «رفعت السيد علي» في تَرجمة ذَلك النَّص إلى العَربيّة، وحَاول أن يُترجم حتَّى آهَات الكَاتِب، ودَلالات مَا بَين سطُوره، اقرَأ كَيف يَقص رحلَة الحج، والطَّريق إلى مَكَّة عَبر الإبل، يَقول: (مَرّت الأيّام، ونَحنُ نَمضي رَاكبين باتّجاه الجَنوب في سيرٍ حَثيث، كَانت الإبل في أفضَل حَال، فقد شَربَتْ النَّاقتان حتَّى الارتوَاء، وطعمتا كمّيات وَفيرة مَن الكَلأ والأعشَاب، مَازال أمَامنا أربعة عَشر يَوماً حتَّى نَصل إلى مَكَّة، ورُبَّما أكثَر إن أمضَينا وَقتاً أطوَل في حَائل، وفي المَدينة مِن بَعدها، وهُما تَقعان في طَريقنا إلى مَكَّة..)..!

والكِتَاب رحلة مُشوّقة، يَعيش القَارئ مَعها بشَكلٍ جَذَّاب، ومِن المُمكن أن يَستخرج القَارئ أفكَارا وإشَارات ومَلامح عَن الحَياة حِينذَاك، اقرأ مَاذا يَقول المُؤلِّف عَن المُطوّف في مَكَّة، وقَارن بَينه وبَين مُعظم المُطوّفين الآن.. يَقول «أسد»: (كُنتُ قَد رَتّبتُ مِن جدّة أن نَسكن في مَنزل مُطوّف مَشهور اسمه «حسن عبيد»، إلَّا أنَّه لَم تَكن هُناك فُرصة للعثور عَلى بَيته أو عَليه في تِلك الفَوضى، فَجأة سَمعتُ صَوتاً يُنادي: (حسن عبيد، هَل هُناك حُجَّاج لـ»حسن عبيد»..؟)، ومِثلَما يَخرج جِن مِن زُجاجة، وَجدتُ شَاباً يَقف أمَامنا، وبانحنَاءة عَميقة، طَلَب مِنَّا أن نَتبعه، كَان «حسن عبيد» قَد أرسَله ليَقودنا إلى مَنزله)..!
لقَد وَصَف «أسد» الكَعبَة وإحسَاسه الصَّادِق عِندَما رَآها أوّل مَرَّة، ولَن أنقل مَا قَاله لأتركه كدَافع للقَارئ، أو القَارئة، لشرَاء الكِتَاب، وسأنقل آخر نَص يَصف فيهِ مَظهر الحَجيج حيثُ يَقول: (هنا شعُوب كُلّ بقَاع الأرض، وأزيَاء، وتَعبيرات مُتباينة، بَعضهم بعَمائم وبَعضهم عَاري الرَّأس، بَعضهم يَسير صَامتاً خَافضاً وَجهه ومَسبحته في يَده، وآخرون يَركضون في حَماس في الزّحَام، خَليط أجسَام بينة لصَّوماليين؛ يَلمعون كالنَّحاس في مَلابس صَارخة الألوان، وعَرَب مِن أعمَاق الجزيرة العَربيّة، وجُوه نَحيلة بـ«لحى كثة» وخطوَات مُتثاقلة، وآخرين ضخَام الأجسَام، أوزبكيين مِن بخارى، مَازالوا بمَلابس بلادهم مِن قفطَان سَميك، وحذَاء طَويل حتَّى الرُّكبة، بالرَّغم مِن جَو مَكَّة اللافح، بَنات مِن جَاوه بوجُوه مَكشوفة، وأعين مِثل اللوز، مَغاربة مُتثاقلو الخُطى، يَتيهون بالبُرْنس الأبيض، وأهل مَكَّة بمَلابسهم البَيضاء، ورؤوسهم المُغطَّاة، فَلَّاحون مَصريّون بوجُوه تَعلوها فَرحة وإثَارة، ونسَاء هنديّات بزيّهن التَّقليدي، ويَظهرن مِثل خيام مُتحرّكة، الفلاته السّود مِن تمبكتو وداهومي في مَلابسهم الزّرقاء، وغطَاء رَأس أحمَر، سيّدات صينيّات دَقيقات الحَجم، مِثل فَرَاشَات مُلوّنة، وخطوات صَغيرة وأقدَام دَقيقة مِثل حَوافر الغزلان)..!

حَسناً.. مَاذا بَقي..؟!
بَقي القَول: هَذا الكِتَاب جَديرٌ بالدِّراسة والقِرَاءة والتَّأمُّل، وأُجزم أنَّ مُعظم أصحَابنا المُثقَّفين مِن أهل مَكَّة؛ لَم يَقرأوا هَذا الكِتَاب، رَغم أنَّهم أزعجُونا بتَقاليد أهل مَكَّة في السَّابِق والحَاضِر..!!!

المدينة 1432/9/14هـ