جدَّي ليبرالي
لم تُغادرني بعد بعض ذكريات الطفولة المكاوية -مكانًا وزمانًا- ولم تبرح مشاهد الكثير منها خاطري رغم السنين، منها مشهد التراويح بمكة، وصوت الشيخ الإمام عبدالله بن محمد الخليفي -رحمه الله-.!
* * *
أمّا مشهد التحضير للعيد، ولبس الجديد، فذاك مشهد كرنفالى في بيتنا، يبدأ بنهاية العشر الأولى من رمضان، ويتراءى لي أن والدي يلبسنا الست البنات قماشًا لونًا واحدًا لثوب العيد، لكن ذلك الثوب فرحته لا تضاهيها دور «شانيل»، أو «كريستان ديور»، وهناك مشهد آخر ظل مرتبطًا بمسرح طفولة مكة المكرمة، وهو صباح يوم العيد، وتفقد والدتي -رحمها الله- الحلاوة اللبنية، واللوزية، وعطر الليمون، والاستعداد لضيوف العيد.
* * *
لم تكن مدينتى المكاوية -وقتئذٍ- تعرفُ السَّهر في رمضان، لأنه لم تكن هناك فضائيات، ولا شبكات اجتماعية. كانت طقوس والدي تُوجِب علينا جَميعًا الاستيقاظَ للسحور، وكان أفراد الأسرةِ كلَّها، بدْءًا بوالدي -رحمه الله-، وانتهاءً بالبنات في البيتِ جميعًا نُشكِّل (فريق عمل) يتَقَاسم أعضَاؤه الوظائف اليومية، بدْءًا بالذكور يعملون مع والدي في الدكان، والبنات مع جدتى التركيّة نُجهِّز أقمشة الإحرام للحجاج، وانتهاءً بخدمة المنزل!
* * *
اليوَمَ.. يَسِيرُ قطارُ الحياة بسُرعةٍ مذْهلة، يُخْشَى من فَرطِ سُرعته أن يَنْسَى المرء منا الموسم الروحي! نَعمْ لم يعُدْ مفهوم رمضان كما كان في ذلك الزمان، باتَتْ أكثر الأمور أكثر تَعْقِيدًا!
في رمضان، أكْثر من سواه، يشدّني الحنين إلى ذكرى سيّدتي الوالدة -طيّب الله ثَرَاها-، فقد اعْتَدْتُ أن نمضِيَ يوم العيد معها، وكَنتُ أسْعد باصْطِحَابِها إلى جدة، كنْتُ أُحدِّثُها وتُحدِّثُني عن ذكرياتٍ مختارة من حياة جدّي محمّد، وكنتُ أَتعمَّد ذكِر أن جدي ليبرالي؛ لأنه أوقف أملاكه من 150 عامًا مناصفة بين البنات والأبناء، فَتضْحَك. أشْعرُ الآن أنّني افْتَقد رمضان المكّاوي بقُدْسيّتِه، وأعتقد أن الذكريات المكّاوية ساكنة في وجْدانِي.