ليس هذا تطويرًا

الذي لا شك فيه أن جذورًا من الماضي نرتكز عليها في حاضرنا؛ لأننا لا نستطيع أبدًا أن ننسلخ من ماضٍ عايشناه زمنًا طويلاً، هذا قول هو عين الحقيقة، فلم يستطع أحد عبر الزمان أن ينسلخ من ماضيه، وحتى لو أراد أن يفعل، فسيبقى الماضي يظهر عبر نجاحاته، إن كان له من هذه النجاحات نصيب، وعبر كبواته، إن كان لهذه الكبوات تكرر في حياته، كما هي حياة الأسوياء كلهم.

وفي بلادنا للثقافة المحلية جذور ارتبط أكثرنا بها ارتباطًا وثيقًا، سواء أكانت تلك الثقافة، هي الغالبة المتمثلة في الثقافة الدينية المختارة عبر تيارٍ أوحد، يُقصي كل ما عداه، أو كانت ثقافة عصرية تعتمد التنوّع، لها رموزها الذين لهم صورة حية انطبعت في الأذهان، يستدعيها المثقفون في بلادنا، كلّما أحسّوا بوجود تيار أوحد يمارس إقصاءً عنيفًا لكل ما عداه، وقد كانت نشأة الصحافة في بلادنا متنفسًا لهذه الثقافة العصرية المتنوعة، وكان كبار مثقفينا من العلماء والمفكرين والأدباء يتصدرون الكتابة لهذه الصحف الناشئة، ويضعون لمسيرتها عناوين مبهجة، ليكون النهوض بالحياة في الوطن ممكنًا، وكان مَن هو مثلي وفي سنّي يتتلمذ على هؤلاء، مع ما كان يعدُّ له أكاديميًّا، فتتوسع آفاق ثقافته، وكانوا فعلاً قادة رأي، يتحفون مجتمعهم بكل جديد، نعم لم تكن صحفهم، التي كانوا لها آنذاك ملاكًا، وهم في ذات الوقت محرروها وكتّابها، قد بلغت القدر من التفوّق الذي تنافس به صحفًا في عالمنا العربي آنذاك منتشرة، ولكنها بما يكتبون تجاوزت زمنها الذي ظهرت فيه، وحملت راية الثقافة فيها رموز برزت شخوصها عبر أرجاء الوطن، لا نزال حتى اليوم نتذكر ما أحاطهم من وهج، ونقارن بينهم وبين مَن تولوا أمر الصحف بعدهم، فنجد أن اللاحقين لم يستفيدوا قط من سابقيهم إلاّ ما ندر، وجاءت فكرة التطوير لصحف استلمتها إدارات وتحرير وهي ناجحة، فلم يمضِ عليها زمان يسير إلاّ ورأينا أحوالها تتدهور، وفي منطقتنا هذه التي ولدت صحافة بلادنا على أرضها أول مرة، وجاء التطوير الأول عبر تقنين حرية إنشاء الصحف، وعبر جمعها في مؤسسات صحفية محدودة، وفي البدء تراجعت تلك الصحف تراجعًا كبيرًا، ثم ما لبثت بعد أن توالى عليها مسؤولون معينون، أن تقدمت عبر جهود فردية، حينما مر بوزارة الإعلام وزراء يتطلعون للنهوض بصحافة هذه البلاد، ومرّت المرحلة وتزايد النجاح للعديد من صحفنا عبر هذه الجهود الفردية المتلاحقة، ولكنّ التطوير حتمًا لا يعتمد على الاجتهادات فقط، بل لابد وأن يسبقه علم وخبرة، ولابد أن تكون الخبرة متأتية من ممارسة للعمل الصحفي زمنًا ليس باليسير، وعمل دؤوب أثناء التطوير، وملاحقة للنجاحات عبر الصحف المختلفة.

وها نحن نرى اليوم زاهي ماضي صحيفتين عزيزتين علينا يتبدد بحاضر يمر بتجارب فاشلة متكررة، فهذه «الندوة» قد حاول الكثيرون إصلاح أمرها، يدفعهم إلى ذلك الشوق لماضيها الزاهر، واقترحوا، وقدّموا خططًا وبرامج يرون أنها تخلصها من هذا الوهن الذي اعتراها دون جدوى، ولم يعد لها هذا الوهج المفقود حتى اليوم، رغم ما جُمع من الأموال التي دُفعت مرة باسم التطوير، وأخرى باسم سداد ما عليها من ديون، وبقي الحال على ما هو عليه، وها هي «البلاد» وهي مع «الندوة» الصحيفتان المكيتان، اللتان لكل منهما ماضٍ عريق، يتوق المكيون لبعثه من جديد، وقد انتظرت البلاد سنين طويلة لتنهض ولم يحدث، فلم يخطط بجدية لذلك، جُمعت الأموال لتطويرها أول مرة فأُهدرت على مسابقات لم تحرّك فيها ساكنًا، وفي استكتاب كتّاب لم يرفع واحد منهم أعداد توزيعها، ويختار لها اليوم -بعد جمع أموال لذلك- فريق تطوير، أو هكذا سُمِّي، لتصدر في نسخة ورقية، ورقها صقيل ملون، تتصدر الصفحة الأولى منها مقالة يومية تحمل صورة كاتبها، مع أن المقالات الأخرى لا تحمل صور كاتبيها، ولعل له عند فريق التطوير مع آخر أهمية لا يعرفها كل مَن في ساحة الثقافة، وهذا الفريق المطوّر، لم تعرف له تجربة من قبل في تطوير الصحف، وجلّه أفراد بعضهم عمل في بلاط صاحبة الجلالة في أعمال هامشية في التحرير، وآخرون لم يعملوا قط في أي صحيفة، وليسوا مؤهلين أكاديميًّا للقيام بهذه المهمة، والتطوير لم يزد عن استكتاب كتّاب أكثرهم مجهول في ساحة الكتابة الصحفية، وكأنى بمن جمعوا هذا المال لتطوير «البلاد» لم يحسنوا اختيار مَن يحقق هذا التطوير، وأخشى أن تفشل هذه التجربة، فلا يعد أمام الجريدة سوى الغياب عن ساحة الصحف المحلية، وهو ما لا نرجوه لها، ونرفع الأكف ندعو الله أن يجنّبها العثرات، فلا نزال نحبها، ونتمنى عودتها، وقد تخلصت من كل وهن، فهو ما نرجو، والله ولي التوفيق

المدينة 1432/9/8هـ