وعودة إلى ما تبقى في مكة المكرمة، الهجلة آخر الأحياء المُزالة

على الرغم من أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله أصدر أمراً ملكياً يتضمن حماية شاملة للآثار الإسلامية في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما وافق على تنظيم لحماية الآثار الإسلامية من العبث أو التداول غير المسموح وفق ما صرح به صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار الشهر الماضي (11/5/2011) إلا أن تنفيذ هذه الأوامر ما زال بعيداً عن التطبيق. فلننظر إلى ما يجري في مكة المكرمة أسبوعين بعد الإعلان عن هذا الأمر؛ إذ تقتحم المعدات والبلدوزرات آخر أحياء مكة التي كانت لم تصلها بعد معدات التوسعة والهدم، حي الهجلة.

فوفق "عكاظ"، وصلت معاول الهدم إلى حي الهجلة في 29/5/2011 لإزالة تسعة فنادق بقيمة 5.3 مليار ريال، فضلاً عن التالي: محال تجارية تزيد على 850 محلا تمثل التنوع المكي في الحرف والصناعات المحلية، آبارا قديمة تعاصر السيرة النبوية مثل الآبار السبعة، وبئر الخرزة والبئر المالح، والبازان كما يشتهر الحي بأزقته القديمة مثل زقاق البرسيم، وزقاق الجنايز الذي يقود إلى مقبرة المعلاة التاريخية، وزقاق القلعة (لست متأكدة أي قلعة كانت)، وزقاق البخارية، وزقاق السعد، وزقاق الصوغ، وزقاق القبة، وزقاق السقيفة، وزقاق التكية، وزقاق الطاحونة. أما معالمه التاريخية وفق عمدة الحي محمود بيطار فسجلوا التالي: مساجد من فترة السيرة النبوية كمسجد سيدنا حمزة ومسجد سيدنا أبي بكر الصديق ومنزل سيدنا عثمان بن عفان، ومساجد متأخرة مملوكية كمسجد الأغوات وعدة كتاتيب ومدارس قديمة مثل مدرسة عارف علي، وسلامة الله، والمدرسة الناصرية وكان به السوق الرئيسة لتزويد مكة بالحطب. ويقع الحي، الذي يعني الأرض المستوية المنخفضة التي تتجمع فيها المياه، على طول طريق إبراهيم الخليل أسفل جبل عمر وعدد كبير من المشاريع الاستثمارية الحديثة، وبه أقرب الفنادق للحرم المكي. وأهم ما في الخبر أن قيمة المتر الواحد في الأرض المنزوعة ما بين 350 ألفا إلى 500 ألف ريال وهو ما يعتبر أغلى تقدير حول الحرم المكي وربما في العالم.

ومن الواضح أن القائمين على عملية الهدم كانوا مدركين أن عملهم سوف يغضب الملك والشارع المحلي والمسلم لو علموا بما يجري للبقية الباقية من تاريخ البلد الأمين ولذلك فقد رأينا التغطية الصحفية بعد عكاظ تصبح خجولة حين انتهت عملية الإزالة في 18/6/2011 أي منذ أسبوع، وعندما ينشر الخبر في "المدينة" لا تشير إلى الحي المزال وإنما إلى "أن لجنة تطوير الساحات الشمالية للمسجد الحرام أزالت 10 عقارات لصالح مشروع دورات المياه في الساحات الجنوبية. وأن أعمال الإزالة شملت 9 بنايات ضخمة، ومبنى آخر بطريقة ناجحة دون مشكلات تمهيدًا لتسليم الموقع للمقاول خلال الأيام المقبلة".

وفي سياق آخر تم الإعلان عن تخصيص المملكة 100 مليار ريال لإطلاق مشاريع استثمارية كبرى في مكة المكرمة وفتحت باب الاستثمار للممولين والمستثمرين والمطورين وغيرهم في مكة المكرمة ضمن ما يعرف ب"خطة مستقبل مكة".

فكما نرى أنه على الرغم من اهتمام القيادة الحكيمة بآثار السعودية وخاصة آثار الحرمين الشريفين ليكونا محوراً في المشروع الذي أعلن عنه الأمير سلطان بن سلمان أنه يجر ي العمل عليه، وهو استعادة البعد الحضاري للمملكة على وجه الأرض، إلا أن بلدوزرات المقاولين والمستثمرين ما زالت ذات الصوت الأعلى في الحرمين ولم تترك فيهما متراً إلا وفيها طعنة وحفرة أو برج ومشروع، تهدم الآثار والأحياء والذاكرة بما ضمت وحوت وروت. إن طمس هوية مكة المكرمة إلى الدرجة التي نجدها عليه اليوم متحولةً إلى "أي" مدينة، أمراً مؤلماً. أصبحت مدينة تحفها الأبراج وناطحات سحاب نتفاخر في مستوى علوها وكأننا بلغنا السماك. بينما يزداد تضاؤل الكعبة، بيت الله على الأرض أمامها أكثر وأكثر حتى تحول معلم مكة الرئيس من الكعبة إلى ساعتها الدقاقة، أعلى ساعة في العالم.

ما الذي نحاول إثباته؟ لا أدري. تعبت من تناول هذا الموضوع وما يترتب عليه من فقدان ومن خسائر ولكن لا فائدة، الناتج أننا نسيء إلى تاريخنا، إلى ديننا، إلى بيئتنا، وإلى هويتنا.

تقول رجاء عالم في إهداء روايتها الأخيرة "طوق الحمام" إلى جدها عبداللطيف: "البيت الذي يحمل علامة إكس حمراء، تعني أنه مُعدّ للإزالة، قبل أن يتحول قريباً غلى مواقف لإيواء هذه الكائنات العجيبة رباعية العجلات، والتي يبدو أنها سترث مكة كما جاء في الحديث عن أمارات قيام الساعة: "يلقى الذهب في الطرقات" .. وهاهي الجبال تُنقض وتتلاشى وتبتلع العمارة العريقة، ومعها بيت جدي القائم على قمة ما كان يُعرَف بشُرفات الحرم باسطنبول مكة. كل ذلك الماضي الساذج غاب الآن ولم يعد له وجود سوى في هذا الكتاب". فهل ستتحول مكة بتاريخها وعمرانها وناسها ومجاوريها وأزقتها وحواريها وحكاياتها وأهازيجها وتلبياتها إلى ماضِ في كتاب؟

جريدة الشرق 1432/8/2هـ