مكة المكرمة مجتمع أمة

قرأت مقال الأستاذ الكبير السيد فؤاد عنقاوي والمنشور بجريدة المدينة بعددها (16405) وتحت عنوان توسعة ساحات الحرم ومشروع الشامية. وذكر السيد العنقاوي التالي: ((المجتمع المكي من بداية القرن الرابع عشر الهجري (1300 ـ 1365هـ) كان يعتبر مجتمعاً بدائياً مغلقاً أكثر من البادية تحضراً وأقل من المدن تمديناً))

أقول للأستاذ الكبير فؤاد إن مكة المكرمة لم تكن في أي يوم من الأيام (مجتمعاً بدائياً مغلقاً) فهي رمز للحضارة والتحضر. لقد أراد الله جلت قدرته أن تكون مكة المكرمة مجتمعاً متطوراً وراقياً ومنفتحاً ويؤكد ذلك قوله تعالى: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [سورة إبراهيم: 37] ثم قال تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير). [سورة البقرة:126].

وهذه دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن تكون مكة المكرمة (منطقة مفتوحة) وأرادها أن تكون (حضارية) حين قال تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات) [سورة البقرة: 126]. والأمان هو أهم ركائز ومقومات المجتمع المنتج والمتحضر.

وكون وجود الكعبة المعظمة والمسجد الحرام بمكة المكرمة فهي أهم عوامل انفتاح المجتمع وتطوره وتحضره وقبوله للآخر وبكل الجنسيات.

في هذه المقال لم يعط العنقاوي الحقيقة حقها من التفسير التاريخي والاجتماعي والسياسي ولكنه جعل قراءة الحقيقة لمفسري أعداء الحقيقة. فما قاله عن انعزال مكة المكرمة ليس هو الحقيقة. ذلك الكلام يقوله بعض المستشرقين. وكنت أتمنى على أخي العنقاوي ان يلملم الكثير من اجزاء المشهد السياسي والاجتماعي في مكة المكرمة. ففي تلك المرحلة التي حددها كانت مكة المكرمة تشهد معطيات الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ السياسية والاجتماعية والتنظيمية فلقد شهدت مكة المكرمة في تلك المرحلة (ولادة) معظم أنظمة وقوانين الدولة السعودية.

إن مكة المكرمة وفي مختلف مراحلها التاريخية وخاصة تلك التي حددها السيد العنقاوي هي تلامس كل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ان لحظة (الايقاظ الفكري والثقافي) في بلادنا كان منبعه مكة المكرمة وبالذات في الفترة التي حددها العنقاوي. ويلحظ هذا في مفردات الخطاب الرسمي والثقافي والاقتصادي وقبلها الديني ومساحة المقال لا تحمل أن أذكر للعنقاوي بعض الفعاليات الثقافية وغيرها. والقيمة الجمالية في ذلك الخطاب يدل على (حالة الانفتاح) الذي عاشته مكة المكرمة وليس لما زعم السيد العنقاوي.

ان الراية في مكة المكرمة وفي كل مراحلها التاريخية هي الانتماء للآخر والانفتاح معه. وقبوله واستيعابه مما أوجد هذا الخليط الرائع من الانصهار .

وأود أن أبين لأخي العنقاوي أن المفكر العربي الكبير عبدالرحمن بن خلدون ذكر في مقدمته الشهيرة كلاماً كثيراً في هذا الجانب حيث ذكر أن كل قبائل الحجاز غلب عليها مبدأ (الاستقرار) منذ العصور الجاهلية وأبين لأخي السيد العنقاوي أن الاستقرار يتحقق عن طريق (الأمان) وهو أهم الغرائز الأساسية التي يبحث عنها الإنسان. فالمجتمع المكي هو مجتمع آمن. وضرب ابن خلدون للقارىء مثالاً حين ذكر بالاسم قبيلة (هذيل) فعدم انتقال وتنقل وتحرك وترحل القبائل دليل على دعائم الاستقرار. وكما تعلم يا سيد فؤاد أن عادة الإنسان المستقر يعتبر عامل جذب. وهذا هو حال مدينة مكة المكرمة، فهي مجتمع منفتح وحيوي ونشط ومستقر وتجاري واقتصادي. وعامة الحركة التجارية هي أهم مرتكزات انفتاح المجتمع. ومكة المكرمة ذكرت في بأنها نقطة ومركز تجاري مهم، وهذا ما جسده قوله تعالى (لإيلاف قريش) [سورة قريش:1].

هذا تعقيب سريع على أخي السيد فؤاد بهدف تأكيد وتوضيح وتصحيح أن مكة المكرمة لم تكن مجتمعاً بدائياً، ولا مجتمعاً منغلقاً. فكيف تكون مجتمعاً بدائياً ومنغلقاً وهي مركز انطلاقة الثورة العربية الشهيرة ضد الدولة العثمانية.

فهذا خير دليل على النهوض والتطور والتحضر الذي عاشته مكة المكرمة حفظها الله من كل مكروه وسوء.

والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض وساعة العرض، وأثناء العرض.