زيارة لعبدالله عبدالجبار .. في عزلته

عندما اطلع الدكتور نبيل راغب على بعض كتب الأستاذ عبدالله عبدالجبار وخاصة (التيارات الأدبية) بجزءيه والغزو الفكري في العالم العربي ومقالة ضافية نشرت بعنوان (أديب) بجريدة عكاظ في 24/12/1379هـ وقد أعجب باتساع وعمق وشمول عالمه الثقافي والنقدي، فأرسل إليه خطابا ببعض الخواطر التي تولدت لديه إثر اطلاعه على تلك الكتب، وهو بصدد إعداد دراسة تحليلية لمنهجه النقدي ومنظوره الفكري والتي صدرت فيما بعد تحت عنوان (أصول التنوير الفكري.. دراسة في منهج عبدالله عبدالجبار) وكان يعرف مسبقا أن الأستاذ يعيش في عزلة يقال إنها من النوع الحديدي قد تمنعه من الرد، فلم ينتظر الرد فبدأ مشروعه لكون عبدالله عبدالجبار ليس ملك نفسه بل هو ملك لكل الدارسين الذين يسعون إلى تخطيط خريطة الأدب العربي المعاصر وبلورة ملامحها الرئيسية (كما يقول)، لكن سرعان ما جاء الرد عذبا رقراقا ليؤكد انطباعه بأن عزلته هذه ليست من النوع الحديدي الذي يصعب فض مغاليقه، لنقف هنا على ما قاله الدكتور نبيل راغب.

وهو ما حصل معي شخصيا عندما بدأت عملي في مكتبة الملك فهد الوطنية عام 1415هـ وبدايتي مع الرواد. فمع تسجيل التاريخ الشفهي للمملكة معهم، إذ حفزني الدكتور يحيى بن جنيد لمحاولة الوصول للأستاذ عبدالله عبدالجبار والظفر منه بلقاء تاريخي، وذكر لي أنه يعيش بمفرده ولا يصل إليه إلا قلة من أصدقائه وتلامذته، وذكر لي أمس الدكتور عباس طاشكندي، فاتصلت به ثم قابلته بحكم وجوده عضوا باللجنة الاستشارية للمكتبة فطلب مني مهلة للاستئذان طالت هذه المهلة فاتصلت بغيره مثل الدكتور عبدالله مناع والأستاذ عبدالفتاح أبو مدين وغيرهم، عرفت منهم صعوبة الوصول إليه. ولكن الصدفة خدمتني ففي منتصف سنة 1418هـ رغبت وأستاذي عبدالكريم الجهيمان بزيارة مدينة جدة حيث يقيم المبدع عبدالعزيز مشري والقادم لتوه من رحلة علاجية في أمريكا، فطلب الأستاذ عابد خزندار أن يستضيفنا فاشترط عليه الأستاذ الجهيمان أن يرتب لزيارة العبدالجبار.. وهكذا كان، ففور وصولنا إلى مطار جدة أخذنا الخزندار إلى حيث ينتظرنا العبدالجبار فبمجرد السلام صارا يتذكران ما قبل ستين عاما عندما كانا ــ الجهيمان والعبد الجبار ــ مدرسين في المعهد السعودي ومدرسة تحضير البعثات في مكة، وما يحملانه من عواطف وذكريات جميلة فيما بينهما، وكنت مع الخزندار نستمع فقط.. وهكذا زال الخوف.

وعرفت طريقي إلى العبدالجبار، فبعد اللقاء الأول عدت له بعد ثلاثة أشهر مع الأستاذ حسين بافقيه حيث قضيت معه ليلة كاملة من ليالي رمضان وسجلت معه حديثا (بالفيديو) ضمن برنامج التاريخ الشفهي للمملكة الذي تقوم به مكتبة الملك فهد الوطنية.. وقد رحب وشكر المكتبة على هذه الخطوة المهمة وهي التسجيل مع الرواد والحصول على شيء من ذكرياتهم قبل أن يمحوها الزمن. وفي اللقاء الثالث زرته وعرف أنني في طريقي إلى سورية فحملني سلامه وتحياته لعبدالرحمن منيف وطلب مني إحضار نسخة من روايته الخماسية (مدن الملح).. وأصبح يتباسط معي ولاسيما عندما أهاتفه بالطريقة المتفق عليها، إذ إنه لا يرد عادة إلا بطريقة معينة يتفق عليها مسبقا، وهي إذا أردت مهاتفته أن يرن جرس الهاتف مرتين ثم يقفله وتتصل مرة أخرى بعد دقيقتين فيرد عليك.

تدخل عليه في مجلسه المعتاد في الصالة التي يحيط بها خزائن الكتب فكرسيه في صدر الصالة على يمينه كومة من الصحف والمجلات وأمامه (الشيشة) وأحيانا يستبدلها بالسيجار، يجلس أصدقاؤه أمامه وعن يمينه وشماله.


لديه خادم هندي يقدم له ولضيوفه القهوة والشاي ويعد وجبة العشاء وغالبا تكون من النواشف والفول فينصرف ليعود في اليوم التالي، وكان يعامله معاملة إنسانية فهو يكتفي منه بالإشارة المتفق عليها، وحتى يضفي على الموجودين شيئا من الدعابة والمرح، فهو يروي شيئا من الطرائف، وإذا أراد أن يعطيك بعض المقالات المصورة وبالذات عما تكتبه أحلام مستغانمي أو انتصار العقيل فقد لمست منه احتراما لهن.. يقول من باب المداعبة.. هل تحب.. أو هل أنت ممن يحبون أن تشيع الفاحشة؟ حتى يعطيك صورا أو صورا مما لديه من تلك المقالات.


زرته للمرة الرابعة في منزله في شهر محرم 1421هـ مع الإخوة الأساتذة عبدالكريم الجهيمان وعبدالرحمن المعمر وعبدالعزيز الصقعبي وأحمد العرفج وعبدالله حسين آل عبدالمحسن أثناء تكريم الجهيمان في اثنينية عبدالمقصود خوجه بجدة.

وبعد ذلك بسنة زرته مع الدكتور عباس طاشكندي وعرفت منه قصة الشيك الذي بعثه له الملك فهد ــ رحمه الله ــ بخمسة ملايين ريال والذي قال إنه ليس بحاجته فلديه ولله والحمد ما يكفيه من راتب تقاعدي فبقي الشيك في أحد الكتب حتى الآن.

كان ــ رحمه الله ــ زاهدا في الدنيا متواضعا محبا للجميع يسيرا في حياته رغم تحول منزله إلى صالون ثقافي سواء في مصر أو جدة فيروي الأستاذ عابد خزندار أنه عند استقالته من عمله في وزارة المعارف عندما كان مسؤولا عن البعثات الطلابية في مصر في أواسط السبعينيات الهجرية/الخمسينيات الميلادية عندما طلب منه العودة من مصر للعمل بالوزارة في الرياض، فحاول الخزندار وبعض أصدقاء العبدالجبار أن يخصصوا مبلغا ماليا ليساعده في متطلباته الغذائية التي يقدمها لضيوفه شبه اليومية فرفض رفضا قاطعا. ولا ننسى قصة تأليفه كتاب (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) مع زميله محمد عبدالمنعم خفاجي وذلك في مقهى (سان سوسيه) في القاهرة.

ومن زهده وعزة نفسه رفضه البقاء لدى الأميرة عالية بنت الحسين وهو يدرسها اللغة العربية في منزلها بلندن في شهر رمضان لتناول طعام الإفطار.. فكان يعود ليعد فطوره بنفسه في غرفته المتواضعة فوق السطوح.
وبعد عودته للمملكة وعمله مستشارا في جامعة الملك عبدالعزيز بعض الوقت استقال بدعوى أنه لم يعد يقدم للجامعة ما يستحق عليه راتبه.


وإذا جاء ذكر الشباب وإبداعاتهم سواء في القصة أو الشعر تجده يطرب ويفرح ويذكرهم بالخير ويتمنى لهم التوفيق ويتنبأ لهم بمستقبل مشرق.


وعندما سمع أنني سوف أذهب لزيارة عبدالعزيز المشري في آخر أيامه رغب في أن يزوره وسيتفق مع أحد أصدقائه عند زيارتهم له بالذهاب به للمشري، وعندما ذكرت ذلك للمشري رفض، وقال: هو أحق مني، أنا من يذهب لزيارته.. وهكذا رحل الاثنان دون أن يرى أحدهما الآخر.

سألته: لماذا لم تتزوج؟ فذكر أنه قد مرت عليه حالات رغب فيها الزواج.. ومنها خطبته لـ (فردوس) قريبة صديق له في الاسكندرية وكانوا ينتظرون زواج أختها الكبرى.. وفوجئ بخبر خطبة خطيبته إلى أحد الضباط.. ولهذا فقد صرف النظر عن الزواج، وعندما يسأل يقول: لقد فاتني قطار الزواج.

هذه مجرد خواطر عابرة أجدني أذكرها وأنا أترحم على الراحلين، وقد تجددت عند تبادل عبارات العزاء مع محبي أستاذ الجيل عبدالله عبدالجبار عند رحيله صباح السبت 4 جمادى الآخرة 1432هـ الموافق 7 مايو 2011م... رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

عكاظ 1432/6/26هـ