وداعًا عبد الجبَّار

 

لا أنسى أوَّل لقاء جمعني بالأستاذ الجليل عبد الله عبد الجبّار – رحمه الله – وأكاد أستعيد، الآن، تفاصيله، كاملةً، فلقد اتّفق لي أنْ كتبْتُ عام 1412هـ مقالاً عن بُداءة النَّقد في المملكة، وقفْتُ فيه على منهج عبد الجبّار في كتابه الرّائد "التّيّارات الأدبيّة في قلب الجزيرة العربيّة"، وكنْتُ أتحيَّن الفرصة لكي ألتقي هذا النّاقد العظيم، ولم أكنْ لأعرف له طريقًا، ومِنْ أين لكاتب شابّ أن يَعْرِف رائدًا مِنْ روّاد الأدب والثّقافة في المملكة.

ويشاء الله – تبارك وتعالَى – أنْ ألتقيه دون تقدير منّي في إحدى المكتبات الكبرى في جدّة، فقبْل أنْ أتهيًّأ للخروج مِنَ المكتبة إذا بي إزاء شيخ بَدَتْ قسمات وجهه مألوفة لديَّ، وإنْ كنتُ لا أعرف أين رأيتُه، وما هي إلا لحظات حتّى استعدْتُ، في عقلي، قُرْبَ ما بين هذا الشّيخ الجليل وبين الصّور النّادرة التي تَعْرِضُها الصِّحافة، لِمامًا، إذا ما ذكرتْ طَرَفًا مِنْ أمره.

استجْمَعْتُ شجاعتي وقلتُ، وأنا أتلعثم: الأستاذ عبد الله عبد الجبَّار؟ فقال: نعم. أنا عبد الله عبد الجبَّار! وفوجئ ذلك الشَّيخ حِين اندفعْتُ إليه أحتضنُه، وأقُبِّله في جبينه، وأقول له: أنا حسين بافقيه! وقبْل أنْ أُتِمَّ التَّعريف بنفسي، قال، بلهجتِهِ المكِّيَّة العذْبة: فينك يا حسين؟ أنا أَدَوِّرْ عليكْ مِنْ زَمانْ!
أطْلَعْتُه على رغبتي في زيارته فرَحَّب بذلك، وضرب لي موعدًا.

لا أستطيع أنْ أصِفَ فرحي وحُبُوري بهذا اللِّقاء، ولا أكاد أُصَدِّقُ أنَّني عرفْتُ الرَّائد الكبير، ولكنَّني، أخيرًا، سأزوره، وسأصبح مِنْ مريديه وتلامذته.. هكذا كنتُ أقول في نفسي، أخيرًا سأقف بنفسي على حقبة مِنْ تاريخنا الثّقافيّ كنتُ، آنذاك، أُمَنِّي النَّفس ببلوغها.

كان عام 1412هـ هو العام الذي عرفْتُه فيه وكان كتابه الفذّ "التَّيَّارات الأدبيَّة الحديثة في قلب الجزيرة العربيَّة" سبيلي إلى معرفته، وحين جلسْتُ في حضرته أدْرَكْتُ سِرَّ هذا العظيم، فأنتَ، معه لا تكاد تجد مسافة بين ما آمن به هذا الرّائد مِنْ قوْل أوْ رأي، وبين حياته التي عاشها بين النّاس، فهو مؤمِنٌ أشدّ ما يكون الإيمان باتّحاد القول والعمل، عرفْتُ ذلك فيه، بعد عقودٍ طويلة كابدها – رحمه الله – في جهاده الوطنيّ والفكريّ والتّربويّ، وقرأتُها في حياته التي عَرَفْتُ طَرَفًا منها: إيمانًا كاملاً بالخُلُق النَّبيل، وصِدْقًا في القول والعمل، ووطنيَّةً حقَّةً بريئةً مِنَ التَّعصُّب والهوى، وعَطْفًا يَسَعُ كلَّ مَنْ اتّصلتْ أسبابه بأسباب الأستاذ، وتديُّنًا عميقًا، وغيرةً على العربيَّة والعروبة، وثقافةً واسعةً، وعِنايةً بالكِتاب، وقدْ كان بيته ومجلسه مكتبة تنطوي على قديم الكتب وجديدها.

وأظْهَرُ ما تجلَّى في حياته إيمانه بالإنسان، وكانتْ كتبه تُعْنَى بالإنسان في حياته، وفي مكابدته، وفيما يجود به صوب عقله مِنْ آثار في الأدب والعِلْم والفلسفة، وأغلَبُ الظَّنّ أنّ معاناته اليُتْم، في طَوْر مبكِّر ، جَعَلَته قريبًا مِنَ النَّاس، يسأل عنْهُم، ويسُدّ عَوَز المحتاج منهم، وآثر في كتابته الأدبيَّة والنَّقديَّة أنْ يكون إنسانيّ النَّزعة، وأنْ يستمسك برومنْسيَّة حبيبة تستبطن واقعيّته الصّارمة التي انتهجها في مسلكه النَّقْديّ، وها هو ذا اليوم، تَرَكَ للأجيال نَهْجًا أصيلاً في الفِكْر الأصيل والعمل الوطنيّ، أديبًا وناقدًا ومفكِّرًا ومربِّيًا وإنسانًا.

رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عنْ أُمّته ووطنه وتلاميذه خير الجزاء.

الوطن 1432/6/5هـ