رحيل أمة

غيب الموت مساء يوم الاثنين علمًا من أعلام أمتنا، وأحد رجال وطننا، ممن نفتخر بهم أيما افتخار، ونعتز بمعاصرتنا لهم أيما اعتزاز، ويزن كل واحد منهم مثاله أضعافًا مُضاعفة. كيف لا؟ وهو الذي تربع على عرش مسؤولية الإعلام، وتسنَّم ذروة قيادة أحد أهم مجتمعات المعرفة في بلادنا، وهي جامعة المؤسس الملك عبدالعزيز بجدة، وساهم في تنمية الحس المعرفي لدى أبناء وبنات مجتمعنا، فكان خير مسؤول وأفضل سائل.

كيف لا؟ وهو الذي اهتم بالعناية بالسيرة النبوية وكل ما يَستتبع بها من أثر وشاخص وموقع، وحرص على غرسها في أذهان ناشئتنا، الذين تاهوا عن إدراك كثير من تفاصيلها الطاهرة في حمئة ما يعيشونه من تطور وتمرد إعلامي. كيف ينسى متابعوه تلك النداءات الوجدانية التي صدح بها دون مواربة أو تردد، رافعًا عقيرته بالقول: “علموا أبناءكم حب رسول الله” و“علموا أبناءكم حب آل بيت رسول الله”؟ كيف ينسى العاشقون كتابه عن رفيقة درب المصطفى وحبه الأكبر أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها؟ كيف ينسى المتبتلون كتابه الرقيق عن بضعة المصطفى وريحانته، الذي ضمّنه كل معاني التبجيل والوقار، المحبة والوفاء، الظاهر جليا منذ الوهلة الأولى حين عنون كتابه بالقول : “إنها فاطمة” وكأنه أراد أن تختزل بصيرتنا كل ما يمكن أن نتصوره من قيم سامية، موردة بعلامات الصدق والإيمان المطلق بين ابنة وأبيها، وزوج وزوجها، وأم وبنيها، فهي بنت مَن؟ هي زوج مَن؟ هي أم مَن؟. ما أروعك أيها العاشق المتيم بحب الله وحب رسوله وآل بيته الطاهرين وصحابته الأكرمين، وما أجمل مسيرتك التي نذرت فيها نفسك لخدمة ربك ودينك ونبيك ووطنك الذي ارتضيت.

إنه صاحب المعالي الدكتور محمد عبده يماني، الذي غمرنا بلطفه ودماثة خلقه، فلم تغرّه دنياه، ولم يَركن إلى هواه، تراه حاضرًا باسمًا في كل مَحفل يمكن أن يوجد فيه، دون تأفف أو ترفع؛ متمثلًا تلك الصفات الحميدة، التي ما فتئ يكتب عنها ويُذكـِّر نفسه بها، صُبح مساء. إيه أيها الشيخ الوالد، فعزاؤنا فيك كبير، ومُصابنا تملأ قسماته كل مظاهر الكمد والحزن، الغُصة والشجى، الألم والحسرة، غير أن نفوسنا سرعان ما تستريح وتشعر بالاطمئنان، لمن كان في مثل علو نفسك، وصفاء سريرتك، وصدق محبتك لله ولرسوله، لاسيما وأنت الذي قد وسَّدت فراشك بالوثير من الأعمال الصالحات، والأقوال الطيبات، والسلوك القويم، مُتمثلًا في كل حركاتك وسكناتك سيرة خير الخلق وأزكاهم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث لم يَغب الطاهر المطهر عن مرامي نظرك لحظة واحدة، ولم يَنقطع لسانك أو يَجف قلمك بالكتابة في مآثره، ولم تملَّ عن تذكير الأمة بخير مُدن الأرض وأفضلها، حيث مكة المكرمة، الحاضنة لبيت الله، وحيث طيبة الطيبة، الساكن فيها حبيب الله. إيه أيها الشيخ الحبيب، لكأني أراك تـُداعب هاتين المدينتين بقلمك وفؤادك في مقالاتك الأخيرة على صفحات جريدتنا هذه، التي قدَّر الله أن تكون بمثابة جناحيك إلى رب غفور، فهنيئًا لك، وعزاؤنا فيك كبير، وأملنا في الله أن يَخلفك علينا بخير خلافة، وأن يُسكنك فسيح جنانه، ويَجزيك عنا كل خير، وما أجلَّ قول الصادق الأمين عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم حين قال والحزن على فراق حبيبه يملأ قسمات وجهه، ووعاء جوفه: والله إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون. ونحن والله إنا على فراقك أيها الشيخ الوالد، مَلجأ اليتامى، ومعين المساكين، لمحزونون.

المدينة 5/12/1431هـ