الحج قديما وحديثا (1)

كثير من أهالي مكة المكرمة تفتحت أعينهم على خدمة ضيوف الرحمن، فبدؤوا يخدمون حجاج بيت الله الحرام منذ نعومة أظافرهم، فورثوا هذه المهنة عن آبائهم وأجدادهم منذ فجر التاريخ، وليس شرطا أن يكون من يخدمون الحجيج من المطوفين، فكل من يسكنون مكة أو حولها يقدمون خدمات مختلفة للحجاج، وهي خدمات متعددة، فمن يدل الحاج على عنوان مسكنه، فهو يقدم خدمة للحجاج...

ولكن المطوفين والطوافة كمهنة ـ بهذا المسمى ـ ظهرت قبل خمسمائة عام تقريبا، لكن شرف خدمة الحجاج والمعتمرين ظهرت قبل الإسلام، منذ عهد سيدنا إبراهيم الذي أمره ربه أن يرفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، (واذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة: 127، ثم أمرهما سبحانه أن يطهرا البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، فقال سبحانه(واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة: 125. وأمر الله عز وجل سيدنا إبراهيم عليه السلام، أن يدعو الناس للحج، فقال له: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج: 27 ، فقال سيدنا إبراهيم عليه السلام، وما يبلغ صوتي، فقال له الله سبحانه وتعالى: ( عليك الأذان وعلينا البلاغ ). فصعد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، على جبل قبيس ونادى: (أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتا فحجوه). فسمعه كل من أراد الله الحج، سمعوا النداء وهم في أرحام أمهاتهم وسمعه من كانوا في عالم الذر وعالم الغيب، فمن لبى النداء وقال لبيك، كُتب له الحج... فبدأ الحج منذ تلك اللحظة، وقيل أن أول من بنى البيت وحج هو الملائكة، وقيل آدم عليه السلام، وقيل إبراهيم عليه السلام... ومن المعروف في كتب السير أن الأنبياء والرسل عليهم السلام جاؤوا البيت وطافوا به، وحجوا، بل إن كثيرا منهم دفنوا حول المسجد الحرام.

لكن حصل أمر جلل، وهو أن عمرو بن لحي أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب، لتعبد من دون الله، وعمرو بن لحي من خزاعة، من سادات مكة والعرب، ويُعد أول من غَيَّر دين إبراهيم عليه السلام، الذي كان يقوم على توحيد الله سبحانه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم” رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار” يعني أمعاءه... فأدخل عمرو بن لحي الشرك بالله لجزيرة العرب. لكن بقيت قلة على الحنيفية، وهي ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، منهم (ورقة بن نوفل). وعلى الرغم من الشرك إلا أن الحج والعمرة استمرا، فكانت قبائل العرب تحج بيت الله الحرام، وكانت القبائل التي تعيش في مكة ومحيطها تتقاتل على شرف خدمة حجاج بيت الله الحرام، على الرغم من شركهم، وعبادتهم لثلاثمائة وستين صنما نصبوا حول الكعبة.

وعلى الرغم من شركهم، فقد كانوا يعظمون البيت الحرام، فلم يضعوا أموالا حراما في إعادة بنائه.. لذا، تركوا مكان الحجر أو الحطيم كما هو، لأن الأموال الحلال نفدت من أيديهم، فرفضوا أن يدخل في بناء البيت، أموال ربا أو أموال تجارة فاسدة أو تجارة بغاء!!. كما كانوا لا يقتلون أحدا في الحرم، وكان لديهم من الأخلاق الدمثة الشيء الكثير، فكانوا يجيرون من يستجير بهم ويدافعون عنه ويقاتلون من أجله، كما كانوا يكرمون الضيف، وأكثر ما كانوا يكرمون حجاج بيت الله الحرام، فكانوا يقدمون لهم الطعام والشراب ويسكنونهم في منازلهم، وهو ما عرف بالرفادة والسقاية والسدانة وهي الاعتناء بكسوة البيت الحرام. وكانت موزعة بينهم.

ومن أعظم تلك القبائل، قبيلة قريش، سيدة قبائل العرب، ومنها رسول الله صلى الله عليه وسلم... الذي بعثه الله سبحانه وتعالى على فترة من الرسل، فجاء بالإسلام دينا وبالقرآن والسنة النبوية دستورا، كما أقر صلى الله عليه وسلم، كثيرا من الأخلاق التي كانت سائدة، يقول عليه السلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام ). ويقول في الحج( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)...وللحديث بقية.

الندوة 25/10/1431هـ