مكة .. الروحانية وسطوة المال
قبل عشر سنوات أو تزيد قليلا، وحينما كان المليون لا يزال محتفظا بهيبته قبل أن يتحول إلى رقم هامشي لا يذكر كثيرا في زمن المليارات، أتذكر أنني كتبت مقالا عنوانه «عبادة سوبرديلوكس» بعد أن أذهلتني أسعار شقق سكنية في مكة المكرمة بلغت حدود العشرين مليون ريال في المنطقة المحيطة بالحرم.. لم أستطع يومها استيعاب ما قرأته، ورحت أتساءل عن ماذا يمكن أن يفعل الذين يتوقون إلى جوار بيت الله بضعة من يوم وليلة وهم لا يملكون الملايين ولا يستطيعون دفع المبالغ الضخمة لاستئجار غرفة لا أكثر بالقرب من الحرم.. ذهبت بي تساؤلاتي بعيدا حتى أوصلتني إلى نقطة الحزن حين سألت نفسي: هل أصبحت عبادة الله بأداء حجة أو عمرة أو زيارة تخضع للتصنيف بعدد النجوم كما هو حال التصنيف الفندقي، بحيث كلما زاد عدد النجوم اقترب الإنسان من الحرم، وكلما قل عددها ابتعد عنه، وقد يدخله لكن عليه أن يسكن في الخلاء البعيد مفترشا الأرض وملتحفا السماء..
تذكرت ذلك المقال وأنا أقرأ مقال الأستاذ يوسف الكويليت في افتتاحية صحيفة الرياض ليوم الجمعة الماضي والذي كان عنوانه «هل سيكون الحج والعمرة والزيارة للأغنياء فقط»، وهو عنوان يدل على المضمون الذي كان من أهم ما جاء فيه أن الارتهان لمزاجية التاجر مسألة قد تثير الرأي العام المسلم عندما يقتصر أداء الفروض على طبقة معينة ويحرم منها متوسطو الحال والفقراء، ولذلك يجب نسف نظرية العرض والطلب بعد أن بلغت الأسعار 30 و50 ألف ريال لليلة الواحدة..
لا أعرف الآن كم ثمن الشقة التي كانت تباع بعشرين مليونا، ولا أريد أن أسبب لنفسي الاكتئاب بمعرفته لأنه حتما سيكون أكبر من أقصى توقعاتي، ولا تهمني معرفته إلا بقدر ما يمكنني استنتاج كم بلغت نسبة الزيادة في تكاليف الإقامة. لكن المسألة تبدو واضحة من الأسعار المشار إليها آنفا.. ربما لا يمكن نسف نظرية العرض والطلب كما يريد الأستاذ الكويليت، ولكن من الواجب ضبطها وتقنينها حتى لا تخدش روحانية مكة وقدسيتها حين ترتفع فيها حمى المزايدات العقارية وكأنها لا تختلف عن طوكيو أو نيويورك أو هونج كونج أو دبي.. هذه مكة شرفها الله، لا بأس أن تكون في مواسم الحج والعمرة منافع للناس ولكن ليس إلى حد الخيال، وليس إلى حد أن تصبح المدينة التي تحتضن بيت الله الحرام كأي مدينة صاخبة أخرى، الصوت الأعلى فيها للمال وحده..
عكاظ 27/9/1431هـ