ذكريات مكية ....(1)

ما أجمل أن يتحدث الإنسان المكي عن ذكرياته المكية الجميلة، والتي تحلق بنا في آفاق العادات والتقاليد الرائعة، وتأخذ بنا بعيدا لنسبح في ذكريات المجتمع المكي ، ذي السمات السامقة، والصفات المباركة ، فدعوني أصطحبكم في جولة نطل منها على مكة المكرمة ، وخاصة الحي الذي عشت فيه، وهو حارتي (حارة الشبيكة) الشهيرة. وأبدأ هذه الذكريات ـ وليست (المذكرات) ، لأن هناك فرقاً بين الذكريات والمذكرات ، يعرفها أهل التأريخ والأدب. أقول أبدأ هذه الذكريات من المكان الذي ولدت فيه ، لنطلق منه في إشعاع حرفي يصل منزلنا بأبعاد حوله .. المهم أنني لا أريد أن أطيل في التقديم، فكاتب هذا المقال ولد في حارة الشبيكة، وهي حارة اختفت تماما من خارطة مكة المكرمة الحديثة ، بعد إزالتها لصالح توسعة المسجد الحرام، والمشاريع المحيطة به ، ولا أدري هل سيطلق على تلك المنطقة بعد تعميرها بنفس الاسم، أم سيختفي الاسم أيضا ، على كل حال، فمقبرة الشبيكة قد تبقي الاسم فترة من الدهر ، فهي شاهد على أحداث كثيرة وأناس كثيرين في حي الشبيكة ، ففي تلك الحارة ترعرعنا، ومنها خرجنا إلى عالم أوسع ، ومنها كنا نذهب إلى كلية التربية بالعزيزية ، ومن أزقتها التي كانت تحتضننا، لنعلب على تربتها كرة القدم، انطلقنا إلى نادي الوحدة. وفي تلك الحارة كانت لنا ذكريات جميلة ، فمنزلنا كان يرتفع شامخا بالقرب من السوق الصغير ، وإذا ما أردنا أن نحدد مكانه حاليا، فهو يقع في الساحة الجنوبية الغربية للمسجد الحرام ، أمام بوابة الملك فهد رحمه الله ، وبالتدقيق ، فهو يقع في ركن فندق التوحيد الأيسر المواجه للمسجد الحرام. وكان منزلنا يبعد عن دكان العم سعيد خضري ، رحمه الله ، بائع السوبيا المشهور بعشرين مترا ، وكان يجاور منزلنا منزل العم أحمد عبدالرزاق ذلك الرجل الأسمر النحيل ، الذي يحمل في طياته قلبا أبيض ، يمتلئ بالود والرحمة والشهامة ، فكنا عندما نخرج من مدرسة الفلاح نمر على دكان الخضري لنحتسي (مغرافا) من السوبيا البيضاء المخلوطة بشراب الزبيب ، والتي اشتهرت بسوبيا الخضري، والتي تحتفل بعيد ميلادها الخمسين تقريبا ، ولقد توفي صانعها وصاحبها العم سعيد خضري قبل عدة أعوام ، تاركا تراثا مكيا، لابد أن يتواجد معك على مائدة رمضان ، ليبرد الجوف الصائم عن الطعام والشراب ، فيشعر المرء ببرودة تنساب في جوفه. والسوبيا ـ كما أعرف ـ تصنع بالشعير ، ولقد برع العم سعيد خضري في صناعتها شرابا جميلا، يتماشى مع أجواء مكة المكرمة الحارة، رحم الله العم سعيد خضري، الذي ما أن يراني حتى يصيح فيه (اتفضل يا ابن أحمد) ، وكان كثيرا يرفض أخذ ثمن السوبيا، ويعزى ذلك لأنني كنت أحد لاعبي نادي الوحدة ، لكنني كنت دائما أصر على دفع ثمن السوبيا ، وهذا يعكس لنا كيف كان الناس طيبين أصحاب شهامة وكرم.

أما العم أحمد عبدالرزاق فقد كان يدير (قهوة) أي مقهى في أول شارع الهجلة، وبجواره كانت قهوة أخرى، وهي (قهوة الإسطنبولي) .. وفي أحد الأيام، عندما كنت صغيرا، كنت مارا من أمام منزل العم أحمد عبدالرزاق، فإذا بي أسمع أصوات إنشاد ، تنبعث من بيته الحجري، ورأيت الناس يلجون داخل المنزل، فدعاني ابنه لمنزلهم، فوجدت العم أحمد عبدالرزاق وقد تحلق حوله بعض رجالات الحي، حيث كان يضرب على (النقرزان) وهي إحدى أدوات لعبة المزمار، كما رأيت العم عبدالله بصنوي يجلس بجواره ، ولم أكن أعرفه آنذاك، ولكن أحدهم قال لي هذا العم عبدالله بصنوي، عمدة الشامية ، وأخذ الجميع يرفعون أصواتهم بالغناء المسمى بـ(الصهبة) وهو غناء مشهور في مكة المكرمة ، يجيده حاليا السيد عباس مالكي، ابن شيخنا الشيخ السيد علوي عباس المالكي، الذي كان مدرسا بمدرسة الفلاح، كما كان أحد علماء المسجد الحرام. وكانت تلك بداية سماعي لغناء الصهبة في مكة. وبعد الانتهاء من الغناء ، تفرق الجميع ، وعرفت بعدها أن العم أحمد عبدالرزاق ، أحد أفضل من يضرب على (النقرزان) ، وشاهدته بعدها في كثير من المناسبات.

أما مركاز عمدة الشبيكة العم حمزة عالم، فقد كان يقبع تحت عمارة شابهاي ، التي تحولت إلى القصر الأبيض فيما بعد، التابع للأستاذ خليل بهادر ، الذي كان يملك حسا تجاريا للعمل في مجال الحج والعمرة السياحي ، منذ وقت مبكر، سبق به كثيرا من أقرانه، وتفوق عليهم، فانتشر بفضل من الله سبحانه وتعالى ، ثم بجهده في هذا المجال، حتى أصبح واحدا من الذين يشار إليهم بالبنان في هذا المجال .. وبالقرب من مركاز العمدة حمزة عالم ، كان يوجد دكان العم حسني دومان ، الذي اشتهر ببيع (الكباب الميرو) وسلطته التي تجمع البيض المسلوق والخيار والطحينة ومجموعة بهارات يتخللها زيت الزيتون وقليلا من الليمون ، وكان الإنسان يجد رائحة الكباب الميرو من مسافة عشرات الأمتار ، تنزلق في أنف المارة في زقاق الجنائز ، فتجبرهم على التوقف لشراء شيء من الكباب الميرو وسلطته.

 أمام عمارة (شابهاي) ، كان يقع دكان العم حسن أبو شنب، وكان ملاصقا لدكان العم سعيد خضري، وقد امتلأ الدكان ( بالصناديق الحديدية) أو الخزانات الحديدية ، والتي تستخدم في حفظ الأموال والمجوهرات والأشياء الثمينة وكذلك الصكوك .. والعم حسن أبو شنب من أوائل من تاجر في (الصناديق الحديدية) وأعتقد أنه أول من أحضرها إلى مكة المكرمة، كما يعتبر واحدا من كبار مطوفي الحجاج العرب في مكة المكرمة، وكان له أولاد، أعرف منهم ثلاثة، العم سامي أبو شنب والذي كان قائدا في الجيش، برتبة عقيد، وكان مقر عمله في الثكنة العسكرية، التي كان يطلق عليها (القشلة) ، والتي تقع في حي (القشلة) ، الواقع بين حي (البيبان والتيسير) حاليا... والعم سامي اشتغل بالتجارة ردحا من الزمن، فكنت تراه جالسا في دكانه بجوار منزلنا ، حيث كان يجالسه أخوه العم عاصم أبو شنب والذي عمل في العسكرية أيضا. كما كان لهما أخ ثالث وهو العم فؤاد أبو شنب، كان ملازما لوالده ويعمل معه في الطوافة. وحاليا يعمل العم سامي في مؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية، مديرا لقسم الخدمات العامة، بعد أن استقال من عمله في الجيش، قبل أكثر من عشرين عاما، أمد الله في عمره، فهو تاريخ قائم بذاته، أرجو أن يستفاد من خبرته ومن ذكرياته العريضة.
وللحديث بقية... ويا أمان الخائفين.

الندوة 2/7/1431هـ