شباك الذكريات

صدر للكاتب علي محمد الحسون كتاب "شباك الذكريات - رجال من المدينة المنورة " يتناول فيه مواقف لـ 51 شخصية من رجال المدينة المنورة، ويقع في 210 صفحات، قال عنهم الكاتب في مقدمته : " من هذا- الشُّبّاك – نطلُّ على ذكريات مضت. وقد حرصتُ على أن تكون عن أناس كانت لي معهم مواقف مباشرة ،عن شخصياتٍ لها مكانتها الفكرية والأدبيّة. ولم أذكر من لا توجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذار، إن أنا لم أذكرهم. أيضاً، هذه الذكريات عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليست عن الذين يعيشون معنا، متعهم الله بالصحّة والعافية وطول العمر".

في مقدمته لكتاب (شباك الذكريات) محمد علي حافظ : لوحات نابضة بالحيوية والحركة لشخصيات لها ملامحها المميزة

 

قد غالبت مشاعري لأكتب بعد ان توقفت عن الكتابة أعواماً طويلة، فكانت استراحة قلم محارب، ولد في يده ملعقة من ورق، وهي بالضبط نفس الكلمة التي استعلمتها في اول عمود يومي أكتبه في جريدة “المدينة المنورة” بعد ان تحولت الى جريدة يومية، والتي اكرمني والدي وعمي السيدان علي وعثمان حافظ، عليهما رحمة الله، ان اتحمل مسؤولية اصدارها يومياً من جدة، عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري.

كنت قد قررت أن اغمد قلمي واستمتع بفترة التقاعد التي وجدت نفسي داخلها دون اختيار كامل مني، ولكن أخي العزيز علي محمد الحسون ظهر فجأة ليتفضل ويطلب مني تقديم كتابه “شباك الذكريات” للقراء، واحسب نفسي ضعيفاً أمام أخ وصديق عزيز وابن من ابناء المدينة المنورة، المدينة والصحيفة.


لقد انقضى من العمر مالا يقل عن 77 عاماً ولم اشعر في يوم من الايام في زحمة الحياة والعمل والتنقل أن التاريخ قد عاد بي الى المدينة المنورة وماضيها وشخصياتها وشخوصها ومسجدها ومجتمعها وشوارعها وأزقتها وحاراتها و”أحواشها” إلا وأنا اتصفح كتاب اخي علي محمد الحسون، الذي احسن الظن بي وشرفني بأن أقدمه لكم.


وللحقيقة فإنني لم أكن اتابع “شباك الذكريات” إلا بعد ان وقعت عيناي على هذا “الشباك” مصادفة فاصبحت حريصاً على متابعته لأنني وجدت فيه نفسي، وماضي وذكرياتي، ووالدي وعمي وأصدقاءهما عليهم جميعا رحمة الله، وكل شخصيات المدينة بتنوعها الثقافي المذهل الذي يعكس ازدهاراً ثقافياً متحركاً تعكسه الشخصيات المتنوعة التي قدمها اخي علي محمد الحسون، في كتابه “شبكات الذكريات” من خلال صفحته الأسبوعية في جريدة “البلاد”.


إن كل من يقرأ ويتابع هذه الشخصيات سيضع يده على نسيج من الثقافات التي تكونت بفضل كون “المدينة المنورة” دار هجرة وجوار اتت اليها الثقافات من مختلف أرجاء العالم الاسلامي وانصهرت جميعها في بوتقة المدينة.. مدينة الحوار.ز جيران رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام.


في هذه اللوحة التي رسمها العزيز علي الحسون تستطيع أن تتعرف على العلماء وحفظة القرآن والفقهاء والأدباء والشعراء والمغنين والعازفين والتجار الذين جاءوا من ارجاء العالم الإسلامي وأنحاء الجزيرة العربية رغبة في جوار سيد بني آدم صلى الله عليه وسلم، فانصهروا فيها وأصبحوا من اهلها ومازالت ذاكرتي تختزن شخصيات جاءت الى المدينة لظروف عملها ومنها:
المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن صالح رئيس المحكمة الشرعية وامام وخطيب المسجد النبوي الذي تواضع للجوار الذي وجد نفسه فيه فأصبح أباً لصغيرهم وصديقاً لأكثرهم، ولم يجد حرجاً في ان يتتلمذ على شيخ قراء المسجد النبوي المرحوم الشيخ حسن الشاعر لقد اصبح واحداً منهم واستطاع ان يجمعهم حوله بالود والمحبة والاحترام.

المرحوم الشيخ حسن الشاعر شيخ قراء المسجد النبوي الذي تتلمذ على يديه ائمة المسجد النبوي وكانت حلقة القرآن التي يعقدها في المسجد النبوي مقصد طلاب العلم، والذي تدرج ابنه معالي الاخ علي الشاعر من ضابط في القوات المسلحة الى سفير ثم الى وزير للاعلام.

المرحوم الاستاذ عبدالعزيز احمد ساب، عندما تم تعيينه مديراً لشركة الكهرباء فاحتضنه اهل المدينة حتى أصبح واحداً منهم أخاً وصديقاً وظل في ذاكرتهم هو واسرته حتى الآن.

المرحوم الشيخ سعيد بافيل، الذي كان من مدراء البنك الاهلي التجاري بجدة، فأرسله المرحوم الشيخ سالم بن محفوظ مديراً للبنك في المدينة المنورة فأصبح مدنياً أكثر من أهلها، وساهم في العمل الاجتماعي والخيري الذي لا ينساه له أهل المدينة.

هذه أمثلة على هذه البوتقة التي استطاعت أن تستقبل الجميع بالمحبة والاحضان ممن جاؤوها وجاوروها فاحتضنتهم بحب واستقبلتهم بترحاب، ولذلك كان مجتمع المدينة الذي يرسم “على الحسون” نماذج من شخصياته مجتمعاً غنياً بالشخصيات الباهرة والمميزة في كل طبقات المجتمع, وما عليكم الا ان تنظروا الى هذا المجتمع من “شباك ذكريات” على الحسون لتعرفوا كم كانت “المدينة المنورة” غنية وثرية بالاشخاص والشخصيات.

نأتي الآن الى الأخ محمد علي الحسون نفسه، فهو بحسب عمره الحالي يأتي من الجيل الثاني لجيلنا ولكنه كان كما يبدو من طفولته وصغره “يتلصص” على مجالس الكبار، ويطبع في ذاكرته صوراً وأحداثاً عنهم مكنته من أن يرسم لوحات نابضة بالحيوية والحركة لاشخاص وشخصيات لها ملامحها المميزة، وهذا هو العنصر الهام في شخصية ا لروائي، ولذلك فانني ارى فيه مواصفات ذلك الروائي الذي يستطيع ان يقدم من خلال الصورة التي اختزنها في ذاكرته “خلطة” قصصية بنماذج من الحياة ستندثر اذا لم يسجلها قلم قادر على ذلك، لديه مخزون هائل من الاحداث والانطباعات التي عاش فيها وعاشت فيه فهناك في “شباك” على حسون شخصيات مميزة منهم من اشرت اليه ومنهم من ستجدونه في كتابه هذا ومنهم من سيأتي بعد ذلك لانني لا أتوقع أن يتوقف أخي علي الحسون عن الاطلال علينا من خلال “شباكه” فمن خلاله سنرى مجتمعنا المدني القديم ذا الفسيفساء الرائعة من الشخصيات والثقافات ولو جمعنا فان ما كتب عن شخصيات المدينة عبر الزمن لاصبحت لدينا ثروة من الشخصيات والثقافات التي هذبها الحوار الكريم، جوار سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن عبثا ان الله سبحانه وتعالى قد اختار له هذه البقعة المباركة لتكون دار هجرة له ولمن يأتي بعده من ارجاء العالم الاسلامي فهي كما قال صلى الله لعيه وسلم تستقبل الجميع وتحتضنهم وترحب بهم ولكنها “تنفي الخبث”.

هذه المدينة التي قال عنها العزيز علي الحسون في زاويته اليومية “من المحبرة” انها تعيش “بلا ذاكرة” وهذه حقيقة مادية فقط، فالمدينة التي يعرفها جيلي لم تعد موجودة كبيوت وشوارع لكنها موجودة من خلال الذكريات والاشخاص الذين عاشوا واثروا تاريخها وربما يكون ذلك اكثر ديمومة واستمراراً.