محمد صادق باشا و أول صور فوتوغرافية لمكة المكرمة والمدينة المنورة
من منا لم يسمع من قبل عن ابن بطوطة كأشهر رحالة طاف بلدانًا كثيرة، وجاب في أنحاء الأرض شرقها وغربها، وتجولنا معه في رحلته "رحلة ابن بطوطة" بمدن وقرى لم نزرها من قبل ولم نسمع بها من قريب أو بعيد. إن متعة القراءة في أدب الرحلات لا يضاهيها متعة أخرى؛ إذا كان الكاتب متمكنًا من لغته الأدبية ومدركًا لطبيعة الدور الذي يقوم به وأهميته. بالإضافة إلى حسه الفكاهي والجمالي الذي يصور لنا الحياة في كل مدينة وكأننا بصحبته في رحلة في زمن فات وانقضى.
ربما كثير منا اليوم لا يجد أهمية كبيرة لهذا النوع من الأدب نتيجة للتطور التكنولوجي الذي نحيا فيه من وسائل اتصال وحركة تمكننا من جولة افتراضية في كل بلدان العالم دون أن نتحرك أو نترك مقاعدنا من خلال محركات بحث عالية التقنية تقوم هي بهذا الدور نيابة عنا. ولكن يظل لأدب الرحلات وكتبها مذاق خاص فهو ينقلنا لمجتمعات غريبة عنا، ويصور لنا عاداتها وطقوسها ولغتها ومأكلها وملبسها في زمن زيارة الرحالة لها. ربما لو استطاع جاك ماندية داغير أن يخترع آلاته الفوتوغرافية - الكاميرا - قبل عام 1839م لكان الأمر أكثر تشويقًا لنا؛ فيستطيع الرحالة أن يزور بلد ما ويلتقط لنا آلاف الصور التي تقرب إلى أذهاننا ما يصفه لنا بلغته البلاغية الجميلة.
وحكاية اليوم ليست عن ابن بطوطة بل عن رجل مصري زار الأراضي الحجازية بصحبة آلة التصوير الفوتوغرافي الخاصة به ليكون بذلك أول من قدم لنا أدب الرحلات مزودًا بصور عن الحجاز. فكما كان لمصر السبق في أن تكون أولى المدن الإفريقية التي تعرف الصور الفوتوغرافية عقب اختراع آلة التصوير بشهرين عندما التقطت أول صورة فوتوغرافية في الإسكندرية في 4 نوفمبر 1839م لمحمد علي باشا في قصر رأس التين؛ كان لها أيضًا السبق في أن يكون أحد رجالها العظام هو أول من التقط صورًا فوتوغرافية وبانورامية للمدينة المنورة والكعبة المشرفة؛ لينقل لنا صورة حية لشعائر الحج والعمرة وأقدس الأماكن التي تشتاق القلوب لزيارتها. إنه محمد صادق باشا الرحالة المصري الضابط والمهندس والجغرافي. رجل ألمَّ بعلوم كثيرة مكنته من أن ينقل لنا صورة استطاع فيها أن يوقف الزمن لثوانٍ معدودة هي لحظة التقاطه لأشهر الصور الفوتوغرافية على الإطلاق لمكة المكرمة والمدينة المنورة.
محمد صادق باشا الضابط والرحالة المصري الذي ولد في القاهرة عام 1822م والتحق بالمدرسة الحربية بالخانكة التي صقلت فيه العديد من المواهب؛ فطلبة المدرسة الحربية لم تكن دراستهم قاصرة على فنون القتال والاستراتيجيات العسكرية فحسب، بل كانوا أيضًا يدرسون الرسم والطبوغرافيا وتقنيات رسم الخرائط والمساحة. ولنبوغ صادق باشا وتفوقه تم اختياره ليكون من ضمن أعضاء البعثة العلمية المسافرة إلى باريس ليتلقى فنون الحربية هناك. وكان برفقته في هذه البعثة اثنان من أبناء إبراهيم باشا بن محمد علي؛ وهما الخديوي إسماعيل والأمير أحمد. ثم عاد إلى مصر في عهد محمد سعيد باشا وعُين مدرسًا للرسم في المدرسة الحربية بالقلعة؛ الأمر الذي ساعد صادق باشا في أن يكون ذا عقلية متفتحة يواكب مستجدات العصر ويحرص على اقتناء أدوات القياس الحديثة.
زار صادق باشا الأراضي الحجازية أكثر من مرة؛ الأولى كانت عام 1860م، والثانية في عام 1861م، وأعقبها بزيارات أخرى كثيرة بعضها بصفة رسمية وبعضها بصفة شخصية في عام 1880م وعام 1884م وعام 1885م.
كانت الزيارة الأولى لصادق باشا عام 1860م بصحبة والي مصر محمد سعيد باشا، ودوَّن تفاصيل الرحلة في كتاب "نبذة في استكشاف طريق الأرض الحجازية من الوجه وينبع البحر إلى المدينة النبوية وبيان خريطتها العسكرية"، طبع بمطبعة عموم أركان حرب بديوان الجهادية سنة 1294هـ.
بدأت الرحلة يوم الثلاثاء 11 رجب 1277هـ من وابور البر - القطار- متجهًا إلى السويس، ومنها اتجه بوابور البحر - الباخرة - إلى ميناء الوجه، ومنها أخذوا الجمال وبدأوا في سيرهم باتجاه المدينة المنورة. وأخذ صادق باشا يبين لنا معالم الطريق المؤدي إلى المدينة المنورة بعناية ودقة بالغة فيصف وعورة الجبال وانحناءاتها وما يشاهده من قلاع وتحصينات ومحطات القوافل وأسماء القبائل وغيرها من التفاصيل الدقيقة المزودة بقياسات دقيقة لاعتماده على مجموعة من أدوات القياس الجديدة آنذاك.
وعندما وصل إلى الحرم النبوي أخذ يبين لنا عمارة المسجد النبوي وأبوابه. كما أنه أشار إلى التقاطه أول صورة فوتوغرافية للحرم النبوي الشريف قائلاً: "هذا وقد أخذت خريطة الحرم السطحية بالضبط والتفصيل ووضعت هنا صورتها باعتبار المترسنتو - السنتيمتر- وأخذت كذلك رسم المدينة المنورة بواسطة الآلة الشعاعية المسماة بالفوتوغرافية مع قبة المقام الشريف والمنارات جاعلاً نقطة منظر المدينة من فوق الطوبخانة حسبما استنسبته لكي يحوز جزءًا من المناخة أيضًا. وأما منظر القبة الشريفة فيد أخذته من داخل الحرم بالآلة المذكورة أيضًا، وما سبقني أحد لأخذ هذه الرسومات بهذه الآلة أصلاً". ثم قام بزيارة البقيع ومكة المكرمة وعاد إلى ينبع، ومنها إلى السويس ومنها إلى القاهرة.
أما الرحلة الأكثر أهمية لصادق باشا فكانت في عام 1880م أي بعد مرور عشرين عامًا على زيارته الأولى في 1860م، وقد دوَّن تفاصيل هذه الرحلة في كتابه الثاني الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته وهو "مشعل المحمل".. رسالة في سير الحاج المصري برًّا من يوم خروجه من مصر إلى يوم عودته مذكور بها كيفية أداء الفريضة. وأهم ما يميز هذه الرحلة هو أن صادق باشا كان في مهمة عمل بصفته أمين صرة المحمل المصري عن طلعة عام 1297هـ، فأخذ يبيِّن لنا تفاصيل سير المحمل المصري من القاهرة المحروسة إلى مكة المكرمة. ويشير صادق باشا في مقدمته لمشعل المحمل إلى الهدف من كتابه قائلاً: "إني قد استخرت الله في أن أشرح ما شاهدته برًّا في طريق الحج الشريف من كل مأمن أو مخيف وما هو جارٍ في كيفية أداء هذه الفريضة الإسلامية ليكون دليلاً مختصرًا مفيدًا للأمة المحمدية وخدمة لأبناء الوطن، ولم أذكر شيئًا بمجرد الظن بل عولت في الغالب على الاقتصار في ذكر الحسن، وسميته بمشعل المحمل وعلى الله سبحانه وتعالى أتوكل، وإن وجد فيه شيء لا ينبغي أن يذكر فإنما ذكرته أداءً لحق الوظيفة مع التلطيف ليكون قدوة ودليلاً لمن يتوظف من الآن وليس الخبر كالعيان".
انتهت رحلات صادق باشا بمجموعة من المؤلفات الهامة التي لا غنى عنها لكل حاج أو معتمر، بالإضافة إلى مجموعة من الصور الفوتوغرافية النادرة؛ تحتفظ بها اليوم بعض المكتبات في المملكة العربية السعودية. وهناك نسخة أخرى من إحدى هذه الصور - وهي عبارة عن صورة بانورامية للكعبة - لدى متحف كلية الآثار بجامعة القاهرة وصلت إليهم كإهداء من الجمعية الجغرافية المصرية. وقد عمل فريق الترميم بالمتحف على الحفاظ على هذه الصورة البانورامية الهامة وترميمها بأحدث الوسائل لتظل شاهدًا على براعة رجل مصري عاش في رحاب مصر المحروسة، وتوفي فيها عام 1902م بعد أن ترك لنا سجلاًّ حافلاً بالأعمال القيمة.
0 تعليقات