مزدلفة تعيد الرواق العثماني

  • عمر المضواحي - مكة المكرمة

باختصار، بات في حكم المؤكد أن الرواق العباسي “العثماني” في الحرم المكي الشريف سيعاد تركيبه مجددا. ومن المتوقع أن يبدأ العمل في إعادة تركيب أجزاء منه على مراحل عدّة وفق جدول زمني ينتهي بالتزامن مع اكتمال أعمال مشروع التوسعة التاريخية للمسجد الحرام في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والمقررة في أواخر العام 1436 المقبل.

محاكاة الرواق في مزدلفة

على بعد نحو ميلين غرب جبل الرحمة في مشعر عرفات يلفت العابرون إلى حدود المشعر الحرام في مزدلفة، مساحة هائلة من الأرض مسورة بشبك حديدي تحمي عددا من المستودعات الضخمة، ومكاتب خشبية جاهزة وأطنان من مواد البناء المختلفة الأشكال والألوان وأرتال من قضبان السقالات الحديدية، وجميعها لا تمكن الناظر من رؤية أي شيء أو حركة داخل المكان.


في وسط الطرف الشرقي للموقع يظهر للعيان نموذجا محاكيا للرواق العثماني في الحرم المكي غير أنه أعلى ارتفاعا وبشكل ظاهر من النموذج الأصلي الذي بدأت أعمال إزالته منذ نوفمبر 2012 في البيت العتيق.


الموقع محصن بشكل كامل، وبالطبع يمنع الدخول إليه من دون إذن وتصريح خاص. وطوال 3 أشهر كاملة كان الفشل الذريع نتيجة حتمية لأي محاولة للدخول. كان الصمت والتجاهل هو سيد الموقف، وبدا أن الحصول على إذن للدخول دونه خرط القتاد. لكنه، على كل حال، لم يفت بعضد العزم وتكرار المحاولة لمعرفة ما يجري في هذا المكان الحصين.


كانت الشاحنات والسيارات الخاصة والمرخصة هي الوحيدة التي تتمكن من العبور إلى داخل الموقع أو الخروج منه. ولم تكن الزيارات حبلى بالمفاجآت. كانت الآمال بالحصول على أي معلومة تعود دوما بخفي حنين.

 

توثيق أسطوري

قبل أيام، جاءت بوادر الفرج. بدأت المعلومات تتسرب ومن أكثر من مصدر موثوق تمكنوا من زيارة المكان. كان حافزهم الرئيس للكشف عن معلوماتهم نبيلا ومحقا في آن. فهم يرون أن ما شاهدوه خلف الأسوار قصة أسطورية تستحق أن تكون فيلما وثائقيا يخلدّ هذه الجهود الكبيرة. وأن ما يجري في هذا الموقع، عمل جليل ومبهر يعد مفخرة جديدة للسعودية ولجهود قيادتها المشهودة في خدمة بيت الله العتيق في شكل غير مسبوق تاريخيا، وقلّ أن يوجد لها نظير في العالم اليوم.


أحد المصادر يؤكد أن دافعه الوحيد للحديث هو إعلان الحقيقة فقط. وإنه لا يجب السكوت أمام فيضان النقد والتجريح والاتهامات غير المبررة التي تنهال ظلما وعدوانا على مسؤولي رئاسة الحرمين الشريفين، ومقاول مشروع التوسعة، وغيرهم منذ أن بدأت أعمال إزالة الرواق العثماني ولم تهدأ حتى اليوم.


تعددت المعلومات، ووثقت بصور فوتوغرافية خاصة لـ “مكة”، شريطة الالتزام بعدم الكشف عن هوية المصادر. قدروا معا أن المهم الكشف عن الإنجاز لا أسماء الأشخاص. تم الاتفاق، وبدأ جمع خيوط القصة!

حذر ومهارة

لعله أكبر معمل لترميم القطع التاريخية في العالم. ورش عمل يقف وراءها مئات من الخبراء والمختصين في أعمال الترميم اليدوي، مزودين بأحدث التقنيات والأدوات والمواد اللازمة لإنجاز أعمالهم في أفضل نتيجة ممكنة. كان العمل يجري في صمت، وكان الفنيون يتعاملون مع كل قطعة بحذر ومهارة، وهم يفرغون كل خبراتهم على عمل سيبقى ما بقي بيت الله العتيق.

بن لادن وجورسوي

استعانت مجموعة بن لادن السعودية لأداء مهمة ترميم وتجديد الرواق العثماني بشركة “جورسوي” (Gursoy) إحدى أكبر الشركات التركية المتخصصة في هذا المجال، خصوصا أن تاريخ عمارة الحرم المكي الشريف يسجل أن الأتراك قاموا بآخر بناء للرواق (العثماني) في عهد السلطان سليم الثاني وابنه السلطان مراد، وتحت إشرافه بين عامي 980 و984 هـ.


بدا الاختيار صحيحا وموفقا للغاية. وقامت مجموعة “جورسوي” التركية المتخصصة في ترميم المباني والمساجد التاريخية في تركيا (آخرها مسجد السليمانية في إسطنبول) بمباشرة صيانة وتجديد كل قطع وأجزاء الرواق العثماني بعد أن تولت فكّه بعناية وجمعه وترقيم كل قطعة وحفظها في مئات الصناديق الخشبية قبل شحنها إلى المعمل الخاص في المزدلفة تحت إشراف كامل من مسؤولي مجموعة بن لادن السعودية.


الروايات تتفق على أن البدء بالعمل سبقته دراسات واختبارات ورسم خرائط وتصوير كل خطوة عمل قبل مباشرة قصّ وفك ورفع كل قطعة أثرية من الرواق العثماني بأيدي خبراء متخصصين.

سر القبب

كانت المفاجأة في انتظار خبراء الشركتين السعودية والتركية عندما قاموا بعمل الفحوصات الفنية لآلية بناء القباب في الرواق العثماني. لقد اكتشفوا سرّا من أسرار العمارة الإسلامية التي ظلت غير معروفة أكثر من 450 عاما في بناء هذه القباب الفريدة.


ويؤكد خبراء مجموعة “جورسوي” أنهم توقفوا طويلا أمام طريقة بناء قبب الرواق في الحرم المكي. وأكدوا أنهم لم يشاهدوا قطّ مثل هذه الطريقة فيما سبق، وأنها سابقة أيضا لفنون الهندسة والعمارة في العصر الحديث، على الرغم من أن عمارة القباب على المباني التاريخية يسبق بكثير تاريخ بناء قباب الرواق العثماني في الحرم المكيّ عام 984 هـ، وهذا دفعهم إلى إنشاء نموذج محاكاة لها في معمل الترميم، للتأكد من قدرتها على إعادة بناء الرواق بالطريقة نفسها التي تمت بها في القرن العاشر الهجري وبأعمدة يعود بعضها إلى القرن الثامن (العهد العباسي).

مفاجأة إغريقية

لم تكن القباب العثمانية هي المفاجأة الوحيدة التي وقفوا عليها وشاهدوها بأم أعينهم، بل وجدوا تنوعا هائلا في تاريخ أعمدة وأسطوانات وعقود الرواق. بعض الأعمدة ظهر أنها إغريقية أي قبل الإسلام، وبعضها أموية وأخرى عباسية وأكثرها تركية عثمانية.

صخور الشميسي

وتقص الشركة التركية حجارة من جبل الشميسي الذي تم استخدام صخوره في نحت معظم أعمدة رواق المسجد الحرام، لنحت قواعد جديدة لجميع الأعمدة والأسطوانات لتعوض تخفيض منسوب الدور الأرضي للرواق في مستوى صحن المطاف ومعالجتها بطريقة لا يبدو فيها أي تغيير عن شكل الأعمدة السابق.


وحسب مخططات توسعة المطاف القائمة الآن على قدم وساق، سيتم تخفيض منسوب الرواق ليحاذي منسوب صحن الطواف وربطه بدور القبو بعمق داخلي يمتد إلى 27 مترا نحو داخل البدروم والساحات الخارجية لتكون في مستوى واحد يحافظ على العلاقة البصرية بين الطائفين والكعبة المشرفة.


وهذه الخطوة ستضمن الحدّ من أي تداخل في حركة الحشود مع مستخدمي الدور الأرضي للحرم كما كان في السابق، مما سيحقق طاقة استيعابية تقدر بثلاثة أضعاف طاقته قبل التوسعة (نحو 50 ألف طائف في الساعة)، وعلى أساس 3 طائفين في كل متر مربع حسب دراسات المشروع لتصل لنحو 150 ألف طائف في الساعة الواحدة.

نقوش وزخرفة القباب

من أروع أعمال الترميم الجارية الآن، هو اجتهاد الخبراء بعمل دقيق ومضن، لإزالة مواد الصباغة واللياسة التي تمت في أعمال الترميم السابقة، عن النقوش والزخارف الإسلامية والنباتية الملونة داخل بطون قباب الرواق، لتظهر لهم أعمال فنية مبهرة رسمت بأياد فنية حاذقة.


وتعامل خبراء الترميم بحذق وحرص شديدين، مع إزالة المواد التي تغطي هذه النقوش والزخارف، لإظهار رسوماتها وإعادتها إلى حالتها الأولى بكل تفاصيل جمالها وألوانها بعد الترميم الشامل لها.
وكذلك هناك كثير من الأعمدة والأسطوانات واللوحات تحمل نقوشا وكتابات تؤرخ لإهداء خلفاء وسلاطين وملوك في العصور الإسلامية السابقة في عمارتهم لبيت الله العتيق، عمر بعضها يتجاوز 1269 عاما. ولهذه النقوش والكتابات أهمية بالغة كونها حفظت فيما حفظت تاريخ الزخرفة الإسلامية، وتطور الخط العربي بأنواعه، والإبداع الفني والحرفي للعمارة الإسلامية، لتعكس الأثر الروحي العميق للبيت الحرام حتى قيام الساعة.


                                                                                          2754  قطعة عثمانية


يضم المبنى العثماني القديم الذي سيعاد تركيبه في الحرم المكي نحو 2754 قطعة من الإسطوانات (الأعمدة) الرخامية والقبب والطواجن والشرفات.
496 إسطوانة
881 عقدا
152 قبة
232 طاجنا
993 شرفة
 


                                                                                     عبقرية العمارة في فضاءات الحرم

اكتشف الخبراء الأتراك الذين يعملون على ترميم قبب الرواق العثماني، أن المعماري الذي نفذها انتهج أسلوبا خاصا في بناء هذه القبب، وبعبقرية لافتة، تمييزا لموقعها الشريف في بيت الله العتيق.


هم يقولون -حسب معلومات المصادر- إن أبا العمارة التركية المعماري العظيم سنان باشا (895 هـ - 996هـ / 1490م-1588م) هو من وقف وراء ابتكار هذه الآلية الجديدة وغير المسبوقة، في بناء القبب التي كانت عنوانا بارزا في عبقريته المعمارية خصوصا في هندسة الفضاءات المفتوحة داخل البناء، عندما صمم ونفذ عمارة الحرم المكي، وترميم القباب فيه عام 945 هـ/ 1539م باستخدام طريقة العقد الركني ذي الفصوص الظاهرة على شكل محارة، في عهد السلطان سليمان القانوني (926هـ- 973هـ / 1520-1566م) الذي عُرف عصره بالعصر الذهبي للدولة العثمانية.

حكاية الأساطين

وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد بن فهد بن عبدالله الفعر في كتابه “الكتابات والنقوش في الحجاز في العصر المملوكي والعثماني من القرن الثامن الهجري حتى القرن الثاني عشر الهجري”: إن شيخ المهندسين في مصر محمد جاوش المعمار هو المهندس الذي تمت عمارة المسجد الحرام -في عهد السلطان سليم الثاني وابنه السلطان مراد- تحت إشرافه خلال أربع سنوات فقط بين عامي 980هـ - 984 هـ.


ويؤكد المؤلف في كتابه القيم (ص 401): يمكن القول إن هذا المهندس أو المعمار هو أول من أدخل نظام القباب في عمارة المسجد الحرام بأمر من السلطان سليم الثاني... ولما أرادوا تسقيف المسجد بالقباب وجدوا أن ذلك غير ممكن لأن أساطين الرخام التي ترجع إلى عمارة الخليفة المهدي العباسي (158هـ - 169 هـ) في عمارتيه الكبيرتين للمسجد الحرام سنتي (160 هـ - 169 هـ) لا تستطيع تحمل القباب لضعفها، لأن القبة يجب أن تقوم على أربع دعائم قوية من جوانبها الأربعة، حتى تستطيع أن تتحمل هذه القباب، فلجؤوا إلى حل لهذه المشكلة يتلخص في أن يبنوا بين كل أسطوانة رخام وأخرى دعامة حجرية يكون سمكها بمقدار أربع إسطوانات بحيث يكون بناؤها عبارة عن دعامة حجرية في أول الرواق، ثم إسطوانة من الرخام، ثم دعامة حجرية، ثم إسطوانة من الرخام، وهكذا حتى نهاية الأروقة. وكان هذا الوضع بالنسبة للجوانب الثلاثة من المسجد وهي الشرقي والشمالي والجنوبي.


أما الجانب الغربي فلم يكن به إسطوانات من الرخام، وإنما كان به إسطوانات حجرية جعلت بدلا من أساطين الرخام عندما احترق المسجد الحرام سنة 802 هـ، وقام بتعميره السلطان فرج بن برقوق سنة 804 هـ “.


وبالمقارنة بين الروايتين، يبدو أن محمد جاوش المعمار كان يعمل وفق توجيهات المعماري العظيم سنان باشا الذي عينه السلطان سليمان القانوني كبير مهندسي الدولة العثمانية والذي قام بتنفيذ أكثر من 440 بناء مختلفا في سائر أرجاء الدولة العثمانية طوال حياته التي قاربت مئة عام.


                                                                                               من يضحك أخيرا؟

اشتعلت في نوفمبر 2012، وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار تؤكد هدم الرواق العثماني وإزالته بالكامل لصالح مشروع توسعة صحن الطواف حول الكعبة المشرفة. كان منظر الرافعات الشاهقة بخطافاتها الحديدية، ثقيلا على قلوب كل من شاهدها. وكان صمت وتكتم الجهات الرسمية فضلا عن مقاول المشروع عن إظهار حقيقة الأمر، يصب مزيدا من الزيت على نار القلق وتخوفات الناس.


وبعد أيام أصدرت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بيانا وزعته على الصحف ووسائل الإعلام، تؤكد فيه أنه سيتم فك الرواق العثماني وإعادة تركيبه بعد انتهاء أعمال مشروع توسعة المطاف.


يومها استدعت الذاكرة الحيّة للمواطنين ذكرى القلعة العثمانية التاريخية على جبل أجياد، ولم يحظ بيان الرئاسة برد الفعل المنتظر.
وكلما طالب المواطنون بتوضيحات أكثر، كان الرد جاهزاً: البيان واضح ولا مزيد من التعليق حول الأمر.


لم تهدأ الأنفس، وهي ترى الحفارات تنقر كديوك جائعة، قباب الرواق البيضاء. وكانت الصور وتسجيلات الفيديو عبر الفيس بوك وتويتر وقنوات اليوتيوب مسلسلا يوميا يتابع جديده كل الناس طوال اليوم والليلة.


وكان جزءا من ذاكرة المكان الذي ظل صامدا طوال أكثر من 1270 عاما، يتبخر أمام أعينهم ولا يملكون فعل أي شيء غير الدعاء وإظهار مزيد من السخط وعدم الرضا بما يجري أمام أعينهم في عمارة بيت الله العتيق مأوى أفئدة خمس سكان العالم اليوم.


وكالعادة، كان مقاول المشروع أكثر الصدور تعرضا لسهام السخط وسيوف النقد ورماح الكراهية، غير أنه بدا الآن أن تسربله بدرع الصمت والاحتساب بدأ يؤتي ثماره، وأن من يضحك أخيرا يضحك كثيرا.

المصدر : صحيفة مكة الاربعاء 9 جماد الثاني 1435هـ