الإهمال يطال مسجد البيعة رغم الجمال الخارجي
عمر المضواحي - مكة المكرمة
بين تلال من مباني وجسور الجمرات العملاقة، ومهاد من طرقات واسعة تم إعدادها بعناية واضحة، يبدو مسجد البيعة التاريخي بلون طيني فاتح، واضحا للعيان على مرمى نحو 500 متر فقط من جمرة العقبة الكبرى في مشعر منى. وبالقرب منه، على سفح جبل ثبير، تقف لوحة إرشادية كبيرة تشير إلى بداية حدود المشعر المقدس.
المشهد مثير حقا للعيان، ويحقق تكاملا بين متطلبات التطوير والعمارة الحديثة من جهة، والمحافظة على المواقع التاريخية الهامة ذات المواقف الإسلامية الحاسمة في تاريخ الأمة من جهة أخرى.
ويكاد مشعر منى المقدس يكون النموذج المثالي الماثل للعيان في تحقيق التطوير مع بقاء المعالم والآثار والمقدسات كشواهد تدل على أصالة التاريخ، ومعاصرة الحاضر.
جمرات ثلاث، وصعيد طاهر متوج بالخيام البيضاء، وخدمات نقل بالقطار وطرق فسيحة وجسور حديثة ومسجد الخيف، ومجرّ الكبش، ومسجد البيعة كلها معا تشكل خليطا مشبعا للعين والروح معا بين ماضي تليد وحاضر زاهر، هو كل ما تحتاجه أم القرى ومهبط الوحي في الألفية الثالثة.
جمال وجوائز
في هذه الأيام ـ وطوال موسم العمرة التي تمتد 270 يوما في العام ـ يقف ملايين المعتمرين والزوار طوال العام، ليشاهدوا مقدسات الركن الخامس في الإسلام، وأهم المواقع النبوية في صدر الإسلام عبر مطلّ واسع يحفها مشروع تطوير جسر الجمرات الثلاث بطوابقه الخمسة ويلتقطون صورا تذكارية بإعجاب واضح أمام هذا المشروع الضخم، الحائز على عدة جوائز تقديرية، والذي وفر فضلا عن جمال عمارته وتخطيطه الهندسي الفريد، الحماية والراحة وتسهيل أداء واجب رئيس من واجبات الحج في يسر وأمان لملايين الحجاج عند رميهم للجمرات في أيام التشريق من كل عام.
رحلة كاملة، يحرص عليها المعتمرون والزوار تنتهي بحرصهم على النزول إلى مداخل جسر الجمرات في بطن الوادي الفسيح لأداء الصلاة في مسجد البيعة الأثري، والتقاط صور تذكارية لوقوفهم في واحد من أهم المواقع النبوية في مكة، والذي شهد أول بيعة في تاريخ الإسلام وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
كان الدكتور معراج نواب مرزا مستشار وكالة جامعة أم القرى للأعمال والإبداع المعرفي والأستاذ الزائر في جامعة هارفارد ـ مركز التحليلات الجغرافية ـ يروي لـ “مكة”خلال جولة ميدانية، قصصا عن هذا المسجد التاريخي، وما شهد موقعه من أحداث ووقائع تحفظها كل كتب تاريخ مكة والسيرة النبوية المطهرة، ومناسك الحج والعمرة وغيرها.
موقع حصين
قبل العام 1428 هـ كان مسجد البيعة محاطا بالجبال العالية من كل اتجاه، متواريا عن الطريق وأنظار القادمين من مكة والخارجين من منى.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته وحياته في مكة المكرمة، يختبئ في هذا الموقع الحصين عن عيون كفار قريش وترصدّ قبائل الجاهلية، ليستقبل الوفود ويعرض عليهم الدين الخاتم للأديان السماوية.
في السنة الـ 12 من بعثته الشريفة استقبل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان وفدا من 12 رجلا يمثلون أعيان قبيلتي الأوس والخزرج القادمين للاستماع إليه من يثرب (المدينة المنورة).
عرض النبي عليهم نفسه الشريفة، وبلغهم رسالة ربه، وكفل لهم إنقاذهم من الشرك والضلال، ودعاهم إلى أول بيعة له من دون العالمين.
وقرّ الإسلام في قلوب الجميع، ومدّ الأنصار أيديهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاهدوه عهد صدق ووفاء بنصرته إلى أن يظهر الله دينه، وكانت بيعة العقبة الأولى.
وفي العام التالي 13 من البعثة، شهد الموقع نفسه بيعة العقبة الثانية التي حضرها 73 رجلا وامرأتان من الأنصار قدموا من المدينة المنورة، وبايعه الجميع فردا فردا على بذل النفس والمال والأهل وكلّ غال ونفيس في سبيل نصرة نبي الله صلى الله عليه وسلم وإظهار دين الإسلام، وعقد العقد عم النبي العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه.
كانت المعاهدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار، النواة الأولى للدولة الإسلامية في التاريخ.
وقام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بتشييد مسجد على موقع البيعة تخليدا لهذه الذكرى العطرة، وربما تكريسا لدور الجدّ الأعلى للخلفاء العباسيين عم النبي وناصره العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه الذي أمضى عقد البيعتين.
الظاهر والباطن
ويبدو مسجد البيعة الآن في حال حسن من ظاهره، ويميل بناء جدار محرابه قليلا إلى اليسار نحو الجنوب الغربي في اتجاه القبلة، وتبلغ مساحته الإجمالية 500 م2 تقريبا.
وعلى العكس من أيام موسم الحج الذي يغلق فيه المسجد وتمنع فيه الصلاة درءاً للزحام على مسار جسر الجمرات، هو المسجد الوحيد المفتوح الآن لأداء الصلاة من بين كل مساجد المشاعر الثلاثة في عرفات ومزدلفة ومنى طوال موسم أيام العمرة.
وشوهد خلال الجولة، مجموعات من المعتمرين رجالا ونساء، ومن جنسيات مختلفة يؤدون صلوات نافلة في المسجد الذي يخلو من مؤذن وإمام طوال العام.
وبحسب دراسة تاريخية عن مساجد المشاعر المقدسة أعدها كل من الدكتور ناصر عبدالله البركاتي رحمه الله الأستاذ بقسم الحضارة والتاريخ، وزميله الدكتور محمد نيسان سليمان مناع في جامعة أم القرى وخرجت في كتاب 1988، فإن أطوال المسجد كالتالي: يبلغ طول الجهة الشمالية للمسجد بمقدار 27,90 مترا، وعرض الجهة الشرقية بمقدار 17 مترا، وهو على شكل مستطيل، ويلاحظ ارتفاع دار رواق القبلة عن بقية جدر المسجد 7 أمتار تقريبا، وطوله 6,85 أمتار، وارتفاع جدار الجهة الشرقية 4 أمتار تقريبا، بينما يبلغ ارتفاع جدار الرواق الثاني، وهو باقي المسجد من جهة الشمال، وجهة الجنوب بمقدار 3,20 أمتار تقريبا.
ولمسجد البيعة باب واحد فقط في الطرف الغربي من الجدار الشمالي، يدخل منه المصلون إلى رواق القبلة وهو غير مسقوف.
ويتسع الرواق لثلاثة صفوف مفروشة بسجاد أحمر قديم ومهترئ الأطراف تنتهي على بعد متر واحد تقريبا بجدار مواز لجدار القبلة يضم خمسة عقود مقوسة تفتح على صحن المسجد المكشوف وفي نهايته مصطبة ترتفع عن الأرض بمقدار متر واحد.
وعلى مسافة نحو مترين من جدران المسجد الأربعة، سور حديدي على قاعدة اسمنتية قصيرة بارتفاع متفاوت بحسب منسوب البناء مثبت عليها قضبان حديدية سوداء اللون بارتفاع متر ونصف المتر مشغولة بزخارف هندسية بسيطة.
ولهذا السور باب من الحديد مقابل للباب المفتوح كقوس للمسجد.
وعلقت على السور الحديدي من الخارج لوحة زرقاء بارتفاع مترين وعرض متر واحد مرسوم عليها في شكل بارز شعار هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر وعبارة موقع المركز التوجيهي لمسجد البيعة.
ولم يشاهد، خلال الجولة، أي من موظفي الرئاسة العامة للحرمين الشريفين في الموقع كما هو الحال عادة في مواسم الحج.
وبالمشاهدة، لا تتوفر لداخل المسجد أي عناية خاصة تذكر، فضلا عن خلوه من دورة مياه للوضوء، كما أن حالة النظافة في رواقه وصحنه المكشوفين بلا أسقف، والأخير بلا سجاد للصلاة، بل فرش بالتراب والحصى في شكل يبدو غير لائق.
ولا يتوفر في مسجد البيعة مصاحف جديدة، والموجود منها متهالكة وقديمة، تم صف بقاياها من أوراق المصاحف وأغلفتها القديمة بإهمال في صندوق خشبي متهالك وضع في وسط كوة داخل جدار المحراب والى اليمين منه، بالقرب من باب الدخول.
.. وللحفاظ عليه حكاية وجهود
طوال عقود مضت من الزمن، كان مسجد البيعة منسياً لا يعرف مكانه إلا قلة ممن قرؤوا عنه.
وظل متوارياً بين الجبال في شعب يعرف بشعب الأنصار وشعب العقبة تحت جبل ثبير، أحد أضخم جبال منى.
وكان آخر بناء للمسجد كما ذكر العلامة الفقيه علي بن عبدالقادر الطبري (ت 1070 هـ)، تم في عهد دولة السلطان أحمد بن محمد خان على يد الباشا حسن المعمار.
ثم عمره لاحقاً الوزير أحمد ابن يونس في حدود عام 1024 هـ.. ولا يزال قائماً إلى اليوم بعد ترميمه وتجديده في العام 1428 هـ.
في العام 2007 وخلال بدء أعمال أكبر توسعة يشهدها جسر الجمرات في التاريخ وما لحقها من قص الجبال وإزالة الشعاب المحيطة بمنطقة المشروع، ظهرت معالم مسجد البيعة على الوادي الفسيح.
وشاع حينها أنه كان مطموراً تحت الأرض، على خلاف الواقع، والصحيح أن المسجد كان متواريا خلف الجبال، متهالك الأجزاء بفعل تقادم الزمن وعوامل التعرية، وطول العهد به عن أي عناية أو اهتمام.
الملك عبدالله
كانت خرائط الشركة المنفذة لمشروع التوسعة تشير حينها إلى أن المنطقة التي تضم موقع المسجد الأثري ستخصص بكاملها كموقف عام للسيارات والحافلات المخصصة لنقل الحجيج إلى منى.
تنادت نخبة من رجالات مكة وأعيانها، إلى العمل معاً لحفظ موقع مسجد البيعة، وعدم إزالته في أعمال توسعة جسر الجمرات الجديد.
وأجروا اتصالات سريعة مع أمانة العاصمة المقدسة لتدارك الأمر، وتجنيب موقع مسجد البيعة من أعمال الإزالة والهدم.
وتقدم المهتمون بأمر المسجد التاريخي بكل الإثباتات المؤكدة لصحة الموقع وقيمته التاريخية، وحضوره القوي الثابت في السنة النبوية الشريفة.
وطلبوا تدخلها في شكل عاجل لحفظه وصيانته وعدم جرفه وطمسه عند تنفيذ المشروع.
تواصلت أمانة العاصمة المقدسة مع قيادة الشركة المنفذة لمشروع جسر الجمرات الجديد، وأبلغت الأمانة مرجعيتها الرسمية وزارة البلدية والقروية وهي الجهة المشرفة على مشروع تطوير منى والمشاعر المقدسة، ورفع الأمر برمته للمقام السامي للنظر فيه.
بعد أيام أفلحت الجهود، وصدرت توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- بالحفاظ على مسجد البيعة وترميمه وإبقائه كأثر إسلامي مهم، وموقع من المواقع النبوية المباركة في مكة المكرمة.
وكما يشاهد الآن، تم تعديل الخرائط ومسارات جسور الجمرات الجديدة، بالالتفاف قليلا حول موقع مسجد البيعة، على الضفة اليسرى من ناصية مخرج الجسر الأخير في اتجاه مكة، وتمت له أعمال ترميم حافظت على طرازه المعماري القديم وأحاطته بسور حديدي من كل جوانبه، إلى جانب أعمال بنية تحتية خاصة بتصريف المياه تحمي المسجد في حال سقوط الأمطار وجريان السيول.
الألواح الثلاثة واللوح المفقود
ثبت على جداري المسجد ثلاثة ألواح من الحجر نقشت عليها تواريخ إنشائه عبر العصور الإسلامية القديمة.
وضع أولها في الجدار الغربي يمين المحراب من الخارج، فيما ثبت لوحان آخران بعضهما قرب بعض على الطرف الشمالي للجدار الجنوبي للمسجد.
ويشير اللوح الأول إلى أول بناء لمسجد البيعة، والذي أمر بإنشائه فوق موقع البيعة الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 144 هـ (761م).
ونقشت فيه العبارة الآتية: أمر عبدالله أمير المؤمنين أكرمه الله ببنيان هذا المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بعقد عقده له العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه.
وفي الآخر نقش: تعريفه بمسجد البيعة، وأنه بني في سنة أربع وأربعين ومائة (من الهجرة).
فيما اللوح الثالث كتب عليه: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد.
أمر بعمارته سيدنا ومولانا المفترض الطاعة على كافة الأنام أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف أقداره.
وذلك في سنة خمس وعشرين وستمائة.
اللوح المفقود
ويتذكر مرزا قصة اكتشافه لوح الحجر الثالث الذي يعد وثيقة مهمة في تاريخ مسجد البيعة بقوله: في عام 2001 قمت بمعية الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان أستاذ الفقه والأصول (سابقا) بقسم الدراسات العليا الشرعية في جامعة أم القرى، عضو هيئة كبار العلماء حالياً، بدراسة ميدانية لإنجاز بحث علمي مشترك بعنوان “منى المشعر والشعيرة ـ دراسة فقهية جغرافية حضارية”، نشرت فيما بعد في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة في عدد ذي الحجة لعام 1421هـ.
ويضف: لدى القيام معا بزيارات عمل ميدانية متكررة لمسجد البيعة عام 1420 هـ وعام 1421 هـ آخرها كان في الساعة الخامسة بعد العصر من يوم الأحد العاشر من شهر ذي القعدة عام 1421 هـ، تم اكتشاف اللوح الثالث المفقود لمسجد البيعة، والذي جاء ذكره في تاريخ العلامة تقي الدين الفاسي، وتم تنظيف وجلاء اللوح بأدوات العمل اللازمة لإبراز الحجر الثالث، وإظهار الكتابة المنقوشة على صفحته.
وقد كان مغطى بطبقة من الرخام البلدي، وأحكم لزق حوافه وجوانبه بطبقة كثيفة من التلييس البلدي بالطين، والنورة البلدية.
ولون الحجر المنقوش أسود يتبدى من خلال الرخام، وتم الكشف عن الكتابة المنقوشة بعناية تامة، واتضح أن بالحجر شطبا في الجهة اليمنى، والجانب الأسفل منها أيضا.
ويؤكد مرزا أن مسجد البيعة يعد من الأماكن التاريخية الهامة في مكة المكرمة، ومن المواقع ذات المواقف الإسلامية الحاسمة في تاريخ الأمة، وجزءا من هويتها وعنوانا بارزا في حضارتها.
ويقول: من بين أهم الأماكن التاريخية التي حوفظ عليها وتواترت على ذكرها وتعيينها المصادر الفقهية والتاريخية ومصادر السيرة النبوية المطهرة، مسجد البيعة الذي بايع فيه الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم على المؤازرة والفداء بالنفس والمال والأهل للذود عنه وحمايته في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه.
ويختم بقوله: لقد حرص الخلفاء والولاة على صيانته وعمارته عبر القرون، فكان لهم ذكر رفيع ومقام كبير في التاريخ الإسلامي.
ودون المؤرخون ما اتصل بهذا المسجد من عمارة وترميم عبر القرون الغابرة والسنين اللاحقة، وجعلوه رمزاً واضحاً لاهتمامهم بالحدث الإسلامي الذي يمثل منعطفا في تاريخ البشرية بشاهد المكان.
المصدر : جريدة مكة 1435/5/4
0 تعليقات