دار السيدة خديجة.. دار النبوة والرسالة بمكة

دار السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- تلك الدار الطاهرة التي جعلها الله تعالى مكانًا لنزول وحيه على خير خلقه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وتلك التي قصدها وتوجه إليها صلّى الله عليه وسلّم بعد نزوله من حراء.. فكانت أول دار تستقبل جسده الشريف، ويمس جلده الطاهر ترابها، وأول دار يتعبد فيها صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول أول آية عليه من الوحي وهو في غار حراء الذي يعد أول مكان يتحنث فيه قبل النبوة.


ففي هذه الدار أنزل عليه قوله تعالى: (يا أيها المدثر) حينما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من حراء إلى السيدة خديجة رضي الله عنها وقال: (دثّروني.. دثّروني) وبهذا تكون هذه الدار أول دار ينزل فيها القرآن على الإطلاق، وثاني مكان ينزل فيه القرآن الكريم على نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.


وفي هذه الدار كان إيمان السيدة خديجة -رضي الله عنها- وهي أول من آمن به صلّى الله عليه وسلّم من النساء على الإطلاق.. وفي هذه الدار بشّرت هذه السيدة -رضي الله عنها- ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا لغب.


وفي هذه الدار تزوج وبنى سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسيدتنا خديجة -رضي الله عنها-. وفي هذه الدار وَلَد صلّى الله عليه وسلّم جميع أولاده منها -رضي الله عنها-: القاسم وعبدالله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهم أجمعين.


وفي هذه الدار شق صدره الشريف وأخرج قلبه الطاهر وغسل بماء زمزم المبارك.


وفي هذه الدار كانت حياته وعيشه مع هذه السيدة الشريفة منذ نزول القرآن والرسالة حتى وفاتها، ومن هذه الدار أخرجت إلى قبرها ودفنها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده الشريفة.. وقد عاش الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذه الدار ثماني وعشرين سنة، وخرج منها مهاجرًا، وكانت تسمّى دار الهجرة.
وبجوار هذه الدار الحجر الذي كان يسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما ذهب إلى حراء وآب منه إلى الدار.


بهذه الأوليات والمزايا والفضائل والخصائص والمناقب للدار التي شرفت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الشرف الكبير الذي نالته السيدة خديجة في هذه الدار من شرف النبوة والرسالة بهذا كله ذهب ابن ظهيرة، والإمام الطبري وغيرهما من ذوي العلم والفضل أن هذه الدار هي أفضل دار بعد المسجد الحرام، ويعني هذا أنها أفضل دار على وجه الأرض لارتباطها بأفضل الخلق وأفضل نساء العالمين.


نجد كل هذه المعلومات والفضائل والآثار التاريخية مفصلة في كتاب مستقل وفريد لم يسبق إذ أفاض في البحث والتنقيب والدراسة والتحقيق عن هذه الدار تحت عنوان: (دار السيدة خديجة بنت خويلد ـرضي الله عنهاـ دراسة تاريخية للدار وموقعها وعمارتها) لمؤلفه معالي الشيخ أحمد زكي يماني -حفظه الله ورعاه- وقد صدر عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.


تلقيت نسخة منه هدية من معاليه، في طباعة فاخرة وثوب قشيب يليق بهذه الدار ذكرًا ومكانًا واهتمامًا، ومكانة في قلوب المسلمين.. ولم أرَ في حدود بحثي ومطالعاتي فيما ألف عن مكة كتابًا مستقلاً عن هذه الدار بمثل هذه الدراسة المستفيضة، وكل ما يذكر عنها في المصادر يأتي ضمن أبوابها وفصولها حسب منهجها وتصنيف موضوعاتها، وبهذا يكون هذا الكتاب إضافة ثرية وفريدة في إطار برامج الباحثين والمتخصصين، وإثراءً للمكتبة العربية والإسلامية عامة.. ويأتي هذا الكتاب في زمن الحاجة الشديدة إلى الوقوف على الآثار النبوية بمكة المكرمة والمدينة المنورة عن قرب لتحديد أماكنها، وحفظها، وتعريف الناس بها مكانة وفضلاً، ولعل هذا ممّا تعمل عليه (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهي فرع عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.


وممّا جاء في مقدمة المؤلف قوله: (تعتبر دار السيدة خديجة رضي الله عنها، معلمًا إسلاميًا عند المسلمين عامة، فهي الدار التي تزوج فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، وتردد عليها جبريل عليه السلام حاملاً رسالات ربه بالقرآن الكريم، وفي الدار نزلتآيات القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1ـ 3] وتكرر نزول الوحي في الدار، وفيها شق قلبه صلّى الله عليه وسلّم.


واستمرت هذه الدار قائمة قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمان.. ويضيف المؤلف: وخلال العصور والعهود التي كانت فيها الدار قائمة فقد كانت موضوعًا من موضوعات كتب المؤرخين المكيين، وكتب المناسك كالأزرقي والفاكهي وابن الضياء والفاسي، والطبري وغيرهم... أوجز بعض في وصف الدار، وأطال في الأحداث والوقائع، بينما توسع بعض في الوصف، من ذكر لصفة الدار من حيث الموقع والعمارة، والتقسيمات الداخلية، كان من أهم أولئك المؤرخين مؤرخ مكة المكرمة تقي الدين الفاسي ت (832هـ /1428م الذي أمدنا بمقاييس وحدات الدار الأساسية.. الأمر الذي مكن فريق البحث من وضع تصميم لشكل تقريبي، ثلاثي الأبعاد للدار وأروقتها الأمامية، أقرب صورة وشكلاً إلى ما كانت عليه الدار في عهد الفاسي، ولقد كانت هذه الخطوة ذات أهمية بالغة إذ مكنت من إجراء المقارنة بين وصف الفاسي والحال التي كانت عليها الدار قبل طمرها بعد سنة 1344هـ ومعرفة التغيرات والإحداثيات والمساحات الإضافية التي حدثت بالدار بعد زمن الفاسي.


ولم تكتف هذه الدراسة بمسح المصادر التاريخية المكية فحسب بل تعدتها إلى الوقوف على وصف عدد من الرحالة المسلمين وعدد من الرحالة المستشرقين الذين قدموا مكة المكرمة وزاروا تلك الدار المباركة، خلال حقب زمنية متباعدة بدءًا من رحلة ابن جبير سنة 579هـ ومرورًا برحلات ابن بطوطة سنة 715هـ والعياشي سنة 1059هـ وأولياجلبي سنة 1082هـ، وبركهارت سنة 1229هـ، وبيرتون سنة 1269هـ، وأيوب صبري باشا في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وسنوك سنة 1303هـ، وإبراهيم رفت سنة 1319هـ) وغيرهم الكثير ممن ذكرهم المؤلف.


ويضيف..الرحالة الذين شاهدوا تلك الدار أدلوا بمعلومات ثرّة، لم تحط بموقع الدار وصفتها من الخارج والداخل فحسب، بل تعدتها إلى وصف المظاهر الاحتفالية والطقوس التي صاحبت زياراتهم، ممّا مكن معرف المظاهر الثقافية والاجتماعية التي سادت المجتمع المكي خلال العصور المختلفة..).


وقد أورد المؤلف في الفصل الأول نسب أمنا السيدة خديجة -رضي الله عنها- وفي الفصل الثاني وصفًا دقيقًا للدار وتحديد موقعها بالصور الفوتوغرافية والخرائط الهندسية وبيان أجزائها ووظيفة كل جزء منها بتخطيط عمراني عن كامل المساحة: منها: ثلث لتجارة السيدة خديجة، ثلثان آخران كانا على النحو التالي: القسم الأول يتكون من مُصلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو مربع المساحة، وحجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مستطيلة الشكل، وحجرة مولد السيدة فاطمة وكانت كذلك مستطيلة، ويوصل بينها طرقة صغيرة يفتح فيها ثلاثة أبواب تفضي إلى مكونات القسم الأول. والقسم الثاني كان عبارة عن قاعة مستطيلة خاصة باستقبال الوفود، وبين قسمي البيت طرقة تصل البيت بعضه ببعض.


وفي الفصل الثالث: عمارة الدار عبر التاريخ من خلال روايات المؤرخين. وفي الفصل الرابع: ذكر الدار في كتب الرحلات إلى مكة. وفي الفصل الخامس الأخير: الدار في حفريات سنة 1410هـ. ثم نتائج الدراسة. وقد تضمنت هذه الفصول جميع ما ذكرته في هذه الأسطر.


ومن السبل التي أوردها المؤلف وكان منها الوصول إلى هذه الدار مؤخرًا: موقف الشيخ عباس يوسف قطان -أمين العاصمة المقدسة- مع مؤسس هذه البلاد جلالة الملك عبدالعزيز -رحمهما الله- حينما اكتشفت الدار في أثناء أعمال التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحَرَام في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود، وقد أراد الشيخ عباس حفظ هذه الدار وصيانتها، فكان من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أن منح الشيخ عباس قطان (الأرض البيضاء التي كان تعرف مجازًا بدار السيدة خديجة -رضي الله عنها- لإقامة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم على أنقاض هذه الدار، كما تفضل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بمنحه أيضًا المكان الذي ولد فيه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم لبناء مكتبة ضخمة يؤمها رواد العلم وطلابه)، والمكتبة قائمة إلى يومنا هذا بفضل الله تحت مكتبة مكة المكرمة وتتبع وزارة شؤون الأوقاف.. وقد خص الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان هذه المكتبة بمؤلّف لطيف صدر عن مكتبة الملك فهد الوطنية رصد فيه تاريخ الدار والمكتبة ومحتواها.


وقد أدخلت دار السيدة خديجة -رضي الله عنها- ضمن توسعة ساحة المسعى سنة 1410هـ.. ونقل أن الدار لم تسوبها الأرض حينما وجدت أجزاؤها في مساحتها، وإنما غطي عليها ببناء خرساني ثم دفن ذلك الغطاء إلى القدر المطلوب من الردم في تسوية الأرض بالساحة الموجودة (حاليًّا)


ويختم المؤلف مقدمته بقوله: «لقد شرفني المولى عزّ وجلّ بطرق هذا الموضوع والبحث في تاريخ هذه الدار العظيمة والإشراف على كل خطوات الدراسة التي شارك فيها فريق عمل متخصص من (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة)..


نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل هذه الدراسة عملا خالصًا لوجهه الكريم، ووفاءً ومحبة لرسوله سيدنا وقدوتنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وزوجه أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها وأرضاها- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين» جزى الله المؤلف خيرًا على هذا العمل الإسلامي، وجعله في ميزان حسناته.. آمين.

المصدر : جريدة المدينة - الاربعاء - بقلم عبدالله ابكر .