بدايات النهضة الأدبية الحديثة في مكة المكرمة
لم يكن صدور كتاب «ادب الحجاز» حدثاً عادياً في تاريخ الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، فلقد كان هذا الكتاب الذي اصدره محمد سرور الصبان عام 1344هـ - 1925م، وضم شعراً ونثراً لستة عشر اديباً حجازياً، فاتحة الأدب الحديث في البلاد، والذي تلخصت ملامحه الثقافية والمكانية في مكان بعينه هو مكة المكرمة التي كانت، في السنوات الأولى من تأسيس المملكة، العاصمة الدينية والعاصمة السياسية والعاصمة الثقافية.
وآذن اصدار هذا الكتاب الجماعي الطابع بتحولات عميقة ألمت بالمجتمع والثقافة في مكة المكرمة وأفضت بطائفة من مثقفي مكة المكرمة بالتعلق بالأدب الحديث الذي راج وذاع امره في غير موقع عربي، وها هو ذا يخلص الى مناطق الجزيرة العربية اشعاع تلك التغيرات الأدبية التي اطاحت قيما وأشكالا ادبية لتحل محلها قيما اخرى وأشكالا اخرى.
ولعله كان من السائغ، وقد استقبلت مكة المكرمة والحجاز عامة، عهداً سياسيا واستدبرت عهداً اخر ان يعبر «ادب الحجاز» عن مولد طبقة اجتماعية وثقافية جديدة تختلف عن النخب الثقافية التقليدية التي اقترن بها النشاط الثقافي والعلمي في مكة المكرمة قرونا طويلة.
وجمع تلك النخب المتقاربة في سني عمرها مشارب ثقافية واجتماعية وسياسية الفت خطابا ادبيا وثقافيا بالغ الجدة، جماعه النهوض والتقدم، وتقبس مفرداته من ادبيات النهضة العربية المعاصرة في مصر والمشرق العربي والمهجر، اما الاوضاع الثقافية والتعليمية والأدبية التي ربيت عليها اجيال متعددة في مكة المكرمة، فلم يكن لها من موقع لدى اولئك الشبان، ففهمهم للثقافة والأدب مختلف عن فهم المشايخ والعلماء قبل صدور «ادب الحجاز» ونشوء النخب الأدبية الجديدة التي اعلنت، وفي جرأة بالغة، انفصالها عن ممثلي الثقافة في مدينتهم المقدسة.
وتبدو اولى ملامح الانفصال عن الأبنية الأوضاع الثقافية التي ذاع امرها ونما في مكة المكرمة ومدن الحجاز في الأسطر الأولى التي مهد بها محمد سرور الصبان لأول كتاب ادبي في تاريخ مكة المكرمة والمملكة عامة، وبلغة تصور خطر الخطوة التي خطاها الصبان وزملاؤه في هذا الكتاب الصغير: «اقدم بين يدي القارئ الكريم صفحة فكرية وجيزة من شعر الشبيبة الحجازية ونثرها لهذا العهد ولأول مرة في التاريخ الأدبي لهذه البلاد بعد فترة طويلة وقرون كثيرة قضى بها سوء الطالع لهذه الأمة ولهذا الوطن ان يكون علم الأدب فيها غريباً والأديب مبتذلاً طريد الأمراء وأعوانهم من الذين قالوا انهم علماء. وكأن العلم كل العلم عند القوم قشور من الخلافات المذهبية والفروضات الفقهية وتعمق في فهم الخصومة القائمة والضرب المستمر بين زيد وعمرو، وأما ما عدا ذلك من بقية العلوم الأدبية وغيرها فلغو والاشتغال بها عبث!».
وتشي هذه المقدمة التاريخية البالغة الأهمية بأن ثمة انفصالاً بين مرحلتين زمنيتين: مرحلة «ادب الحجاز»، وما قبلها، ومفهومين مغايرين ل«الأدب»، وجيلين منفصلين: النخب الجديدة، والنخب الأدبية والثقافية التقليدية التي ربيت على مفهومات ادبية بالغة القدم، وتكاد تكون منفصلة عن وقع الحاضر، ومتغيرات الزمان وصروفه، بل ان مقدمة الصبان تشير في غير خفاء الى ان انهيارا حقيقيا مس النتاج الأدبي، على مختلف اضربه، شعراً ونثراً، قبل ولادة الجيل الأدبي الحديث الذي يتصدر قيادته: «اما قرض الشعر وروايته والنظر في كتب الأدب، فكان الاشتغال بها مما لا يليق والترفع عنها من الكرامة، فلم يكن للعلم دور يجد فيها الطالب المتعطش طلبته من العلم والأدب اللهم الا مدارس ابتدائية ضيق عليها الخناق، لا تتعدى حداً محدوداً لها، وإلا كتاتيب بسيطة يفك فيها الطالب الحرف ثم يترك حبله على غربه يشرق او يغرب، ولم يكن يدرس في المسجد الحرام الا طرف من العلم يتلقاه انماط الأهلين والمجاورين على نية الفتوح والبركة لهم، او على نية العيش لمعلميهم. على ذلك نشأت جل الشبيبة وعلي مثل ذلك درج آباؤنا والأجداد منذ ذلك العهد الذي تهدم فيه بنيان العلم في هذا البلد المقدس واندكت فيه صروح الأدب والأدباء».
ولكن هل ما ذكره محمد سرور الصبان من دك صروح «الأدب»، حتى اصبح غريبا في مكة المكرمة، والحجاز عامة، وحتى اصبح الاشتغال بكتب الأدب «مما لا يليق والترفع عنها من الكرامة» مطابق للواقع؟
ان مقابلة هذه المقولة بالواقع الثقافي والأدبي في مكة المكرمة تثبت صدقها او بطلانها.
فلقد غبر زمان على مكة المكرمة تضعضع فيه بنيان الأدب، وخاصة في القرون المتأخرة التي افرغت منها اللغة العربية الفصحى، بعد ان تحولت في اعلى نماذجها الأدبية والفكرية الى لغة عربية ذات تراكيب اعجمية، لا تنبئ عن ان حركة ادبية او ثقافية مهمة قد حلت في يوم ما في هذه المنطقة من الوطن العربي، وساعدت الأوضاع السياسية التي طرأت في غير موقع من العالم الإسلامي على ان تلقي ظلالها على مدن الحجاز وقصبتها مكة المكرمة بغير قليل من التأثير، فانصرف سكان هذه المنطقة عن الاشتغال بأمر بلدتهم، وساقهم ذلك الى ان ينتظر واديهم المجدب الصرة السلطانية، والجرايات التي يجريها السلاطين والولاة، والتي تحولت، فيما بعد، الى سبب في تقهقر المد الأدبي والثقافي كما يرى غير واحد من ادبائها ومثقفيها، فلم تعرف مكة المكرمة من ألوان الحياة وصخبها الا لوناً واحداً مكروراً، وتحول النشاط الاقتصادي لمكة المكرمة الى عمل موسمي مقترن بأعمال الحج من موسم الى موسم، وما يتخلل ذلك من ترقب وهلع، قد تحدثهما حرب مفاجئة، او عوامل طبيعية على حين غرة، تحد من اعداد الحجاج، وتصرف اهل هذه المدينة عن التفكير في غير اسباب الرزق.
ويبدو ان ارتباط الأهلين بأعمال الحج والطوافة حال دون الاهتمام بالأدب الذي نظر اليه على انه ضرب من الترف الذي لا ينبغي لأحد ان ينصرف بكليته اليه، ولا يتوفر عليه، وأن يرسم باسمه، الا ما كان على سبيل التحلية التي نهض بها عدد من المشتغلين بالفقه او النحو، من الذين لا يمكن ان يعدوا ادباء الا على سبيل المجاز او ما يقرب من المجاز، فخلت تلك الحقبة التي ازدهرت فيها الطباعة والنشر في مكة المكرمة، بعد تأسيس الطباعة فيها عام 1300هـ - 1882م، من اي اثر ادبي ذي شأن، حيث لم تقم المطبعة الميرية (1300هـ - 1882م) والمطبعة الماجدية (1327هـ - 1909م) في المدة حتى عام 1344هـ - 1925م بطباعة كتاب ادبي بالمفهوم الحديث للأدب، وكان مجموع ما نشرته تانك المطبعتان من كتب ادبية ونحوية تراثية لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، لعل من اهمها كتاب «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» في النحو لابن مالك، وعلى هامشه فوائد منتخبة من شرحه للمصنف وللدماميني، وذلك سنة 1319هـ ، وشرح التصريف العزي لأبي الحسن الكيلاني سنة 1302هـ ، وكتاب «النهاية في التعريض والكناية» للثعالبي سنة 1301هـ ، وديوان ابن المقرب العيوني سنة 1307هـ .
وأحسب ان اصابة الأدب في الحجاز، وفي مكة المكرمة بشكل خاص، في مقتل، لم يكن بالأمر الحديث، ولكنه يعود الى قرون مضت. فبعد ان عاش الأدب الحجازي في حالة مد وجزر بعد القرن الثالث الهجري، اصيب في القرون المتأخرة، الا من استثناءات هنا وهناك، بحالة من الضعف والضمور التي انعكست على مظاهر الحياة عامة، ثقافية كانت او سياسية او اقتصادية، وما ان نصل الى القرن الثاني عشر الهجري حتى بلغ من شأن الحياة الثقافية ان تداعت اركانها، وحلت اللغة التركية محل اللغة الفصحى التي تدهورت، في ذلك الحين، فيما يقول محمد سعيد عبدالمقصود، «تدهورا مشيناً، وحذق اللغة التركية عامة الحجازين حتى رأينا المؤلفات الحجازية - وهي لا تتجاوز اصابع اليد - مشحونة بألفاظ تركية غلب على اللسان استعمالها. فبلاد هذه حالها، وأمة هذه محنتها، ولغة هذه مصيبتها، لا بدع ان تشل حركتها الأدبية، وتذبل حياتها الاجتماعية فينهار البناء الذي وضعت اسسه في القرن الماضي ان عد ذلك من الأسس». وما ان يحل القرن الثالث عشر الهجري حتى نجد محمد سعيد عبدالمقصود قد نعى الأدب الى اهله وذويه، بقولته المتحسرة ذات الدلالة: «والحقيقة التي يجب ان تسجل هي ان الأدب الحجازي في هذا القرن مات تماما».
المصدر : جريدة الرياض الخميس 5 ربيع الأول 1426هـ - 14 إبريل 2005م - العدد 13443 بقلم ا.حسين محمد بافقيه .
0 تعليقات