وضع جوهر وبغلف تحت الاقامة الجبرية وتحريم مرورهما بجدة

قضت اللجنة الدولية المكونة من أتراك وفرنسيين وانجليز بإعدام عبدالله المحتسب والعمودي كبير الحضارمة واثنى عشر رجلا من عامة أهل جدة، ونفذت حكمها في أوائل شهر ربيع الاول من عام 1275، كما قضت اللجنة كذلك بنفي عدد من وجهاء جدة ومنهم قاضي جدة عبدالقادر شيخ والشيخ عمر باديب والشيخ سعيد بغلف وشيخ السادة عبدالله بهرون والشيخ عبدالغفار باغفار والشيخ يوسف باناجة. وكانت تلك اللجنة قد تكونت في أعقاب الفتنة التي شهدتها جدة في السادس من ذي القعدة وقتل فيه كلٌ من القنصل الفرنسي والقنصل الانجليزي وتعرضت فيها جدة لقصف مكثف بالقنابل قام به مركب انجليزي كان يرسو في البحر قبالة شواطئ جدة وذلك كما أوضحنا في الحلقة الأولى من سلسلة (جدة.. تاريخ الفوضى) التي نشرت في هذه الصفحة يوم امس.


على الرغم من ان المصائر التي آل اليها أمر من تم نفيهم الى خارج جدة تظل مجهولة الا ان وثيقتين من وثائق الباب العالي والمتضمنة الرسائل التي كانت توجه الى والي جدة وشريف مكة تكشف لنا ما آل اليه أمر اثنين ممن شملهم النفي وهما صالح جوهر صاحب المركب الذي انطلقت منه الفتنة حينما اراد جوهر ان يرفع العلم العثماني محل العلم الانجليزي وكذلك الشيخ سعيد بغلف الذي أدين هو الآخر في المحاكمة التي قامت بها لجنة التحقيق الدولية.
من خلال تلكما الوثيقتين نكتشف ان الذين تم نفيهم لم يلبثوا ان سمح لهم بالانتقال الى مكة المكرمة ووضعهم تحت الاقامة الجبرية هناك بعيدا عن مسرح الحادثة وبعيدا كذلك عن المجتمع الذي يمكن له ان يتعاطف معهم اضافة الى ان ابعادهم عن مقر تجارتهم يشكل العقاب الأكبر.
جاء في نص الرسالة الأولى من الباب العالي الى إيالة ولاية الحجاز بتاريخ 18 ربيع الأول سنة 1284، أي بعد تسع سنوات على النفي، ما نصه:
لقد تم الاطلاع على خطاب ولايتكم والمتضمن ضرورة نقل سعيد بغلف وصالح جوهر اللذين كان لهما دخل في حادثة جدة، وسبق ان تم القبض عليهما ونفيهما ثم اطلاق سراحهما واقامتهما في مكة المكرمة مع أفراد أسرتيهما الى الشام الشريف للاقامة فيها، وبناء على سياق معروضكم فإن ارسالهما بتلك الصورة الى المحل المذكور مناسب وعليه فقد تم ابلاغ سوريا بذلك والمرجو من جنابكم سرعة ارسالها الى الشام الشريف.
ويكشف الخطاب المرسل من قبل السلطنة الى الولاية عن عدد من الجوانب منها:
- ان القضية استمرت تشكل جانبا مهما وخطيرا على رغم مرور تسع سنوات على الحكم فيها، وعلى الرغم من اطلاق سراح من حكم بنفيهم بحيث ان انتقالهم من موقع اقامتهم الجبرية الى الشام يظل أمرا يحتاج مكاتبة بين الوالي والباب العالي.
- لا يبدو أمر الانتقال مجرد رحلة عادية الى الشام ذلك ان خطاب الباب العالي يشير الى ما جاء في خطاب الوالي من (تلك الصورة) والتي تكشف ان الانتقال سوف يتم بموجب حراسة تضمن عدم هروبهما وعدم اتصالهما بأحد ولذلك جاء الانتقال في صيغة (ارسال) فهما لن يرحلا ولن ينتقلا وانما سوف يتم (ارسالهما) الى الشام.
- ان وصولهما الى الشام يحتاج الى مكاتبة مع الشام نفسها لترتيب أمر الاقامة هناك ولذلك يشير خطاب الباب العالي الى انه تم ابلاغ ولاية سوريا بذلك. ان ذلك يكشف عن ان الاقامة الجبرية التي يخضع لها المنفيون استمرت تسع سنوات بعد الحادثة وان الذي سمح بتغييره هو موقع الاقامة الجبرية. الوثيقة الثانية جاءت بعد الوثيقة الأولى بثلاث سنوات وبالتحديد في شهر ذي القعدة من سنة 1287 ويكشف فيها خطاب الباب العالي عن عدم تنفيذ المنفيين صالح جوهر وسعيد بغلف للانتقال الى الشام وايثار البقاء تحت الاقامة الجبرية في مكة المكرمة وتقول الوثيقة:
«ذكر سعيد بغلف وصالح الجوهر -وهما من تجار جدة وسبق نفيهما بسبب حادثة جدة ثم اطلق سراحهما ووضعهما تحت الاقامة الجبرية في مكة المكرمة- في الاستدعاء الذي قدماه من انه بناءً لعدم وجود مصدر للعيش لهما، فقد طلبا منح الرخصة لهما في التوجه الى الهند والى بلدان اخرى لأجل التجارة وذلك باحضار كفيل قوي يكفلهما، وبناء على ان المذكورين لما رجعا من منفاهما ودخلا الى جدة بعد صدور العفو عنهما واطلاق سراحهما، فقد استقبلا استقبالا حافلا كبيرا ونظرا لما نتج عن رفع الشكوى بحالهما الى الباب العالي فإن اقامتهما لم تكن مناسبة في جدة بل كان يجب نقلهما إما الى الطائف أو الى مكة المكرمة، والى حين صدور اشعار بوضعهما بعدم السماح لهما بالعودة الى جدة فقد صدر مكتوب لولاية جدة بتاريخ 26 جمادى الأولى 1283 بذلك وبناء على عدم جواز عودتهما الى جدة الا انه بالنظر لما قدماه في الاستدعاء بتقديم كفيل قوي وبشرط عدم المرور بجدة أو المنطقة المجاورة لها فإنه لا بأس بالتوجه بالطريق التجاري الى بعض الأماكن والعودة الى مكة المكرمة وبناء عليه فالمرجو اجراء اللازم بمقتضاه».
واذا كان هذا الخطاب يكشف عن بقاء بغلف والجوهر في مكة المكرمة وعدم انتقالهما الى الشام فإنه يكشف كذلك عن جملة من الأمور منها:
* انهما عادا الى جدة حيث تم الاحتفاء بهما في حفل كبير يكشف عن تعاطف اهالي جدة معهما وبالنظر الى عودتهما على انها عودة للابطال وليست عودة مجرمين نفتهما الدولة وذلك هو الأمر الذي أغضب والي جدة فكتب به الى الباب العالي.
* ان اقامتهما الجبرية في مكة قد عرضتهما لضائقة مالية على الرغم من انهما من كبار تجار جدة ولذلك جاء التماسهما بالتحرك لمزاولة التجارة مع الهند أو بلدان اخرى لعدم وجود مصدر للعيش لهما كما جاء في الخطاب.
* على الرغم من ان الطريق الى الهند يقتضي المرور بجدة باعتبارها ميناء الحجاز فإن السماح لهما بالتحرك للتجارة ظل مرتبطا بشرط عدم العودة الى جدة بل عدم المرور بها أو بالمنطقة المجاورة لها وعليهما الاكتفاء بالتوجه عبر الطريق التجاري الى بعض الأماكن والعودة الى مكة المكرمة، وربما كان ذلك الطريق التجاري هو الطريق المؤدي مباشرة الى اليمن أو الشام، وقد يشمل الذهاب الى الميناء الواقع خارج سور جدة دون الدخول اليه عبر بوابات السور. ولا يزال التخوف قائما من الرجلين لذلك تم اشتراط ان يكون لهما «كفيل قوي» يضمن عودتهما الى مكة المكرمة ويضمن كذلك عدم مرورهما بجدة أو بالمنطقة المجاورة لها.


وبقدر ما يكشف هذا الخطاب الذي جاء بعد اثني عشر عاما من الحادثة عن التخوف من أي تعاطف لأهل جدة مع المنفيين فإنه يكشف عن العلاقة العضوية التي كانت تربط اهالي جدة بتجارها الذين تم نفيهم وربما يكون استمرار العقاب الى ما بعد الاثني عشر عاما يعود الى استمرار طلب الرضا من بريطانيا بعد حادثة قتل سفيرها، فالعودة عن قرار النفي ليست من صلاحيات تركيا بعد ان كان حكم النفي حكما دوليا أصدرته اللجنة المكونة من أتراك وفرنسيين وانجليز ويظل التساهل في تطبيقه تساهلا في تطبيق قرار دولي أو اتفاقية دولية.


وسياسة الاسترضاء هذه هي ما تكشف عنه حلقة الغد حينما يصبح طلب بريطانيا لألف بعير مثار أزمة بين ولاية جدة والباب العالي.

المصدر عكاظ ( الأحد 07/10/1427هـ ) 29/ أكتوبر/2006  العدد : 1960