حسن بن محمد سفر *
في ليلة من ليالي المتعة والأنس المشتمّ بها عبق التاريخ الإسلامي العمراني والحضاري، وعلى مدى أربع ساعات، على غير المألوف في إثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه، شفاه الله، أمتع معالي فضيلة الشيخ العلامة الدكتور عبد الوهاب ابو سليمان، عضو هيئه كبار العلماء، الجموعَ الغفيرة من الحاضرين والحاضرات من أصحاب المعالي والفضيلة ورجال السلك الديبلوماسي، بتطواف مكثف مليء بالأحداث والذكريات والعبر والأخبار في ولادة المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم وعترته الطاهرة في شِعْب بني هاشم. وقلَّب المحاضر ذكريات التراث الإسلامي بالتوثيقات صورة وحدثاً، وفق المنهجية العلمية والمصادر الأكاديمية للفقهاء والرحالة والمؤرخين وقاصدي أُمِّ القرى من المسلمين، ممكِّناً الحاضرين والحاضرات عبر الدائرة التلفزيونية، من استدراج الذاكرة التراثية للمكان وماضيه، من مساكن آل عبد المطلب وأعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى فيها من شواهد مليئة بالعبر في تراث الأمة الإسلامية، فقد أشرق نور ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في شِعْب بني هاشم، في المكان الذي عرف بعدها واشتُهر كمكان ولادته، قاطعاً وممزقاً محابر أقلام مَن شكَّكَ في ولادته فيه، ممن هم بعيدون من الوقائع والقرائن الثبوتية، بعدما وقع بعضهم في الهوى والتعصب والفراغ الروحي والتراثي ولم يعلم بالتواتر أن اهتمام خلفاء الدولة الإسلامية وملوكها بالحفاظ على هذا المكان دليلٌ قاطع وشاهد ثابت كوضوح الشمس في رابعة النهار على ما نقول، وعلى رأسهم صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله (ت 1372)، الذي أمر بالحفاظ على مكان مولده صلى الله عليه وسلم، ليصبح اسمه (مكتبة مكة المكرمة)، فسجَّلَ تاريخُ صنائع الملوك ومآثرهم في صفحاته المشرقة للملك هذه المأثرةَ العظيمة، بأن جعل المكان من منارات العلم والمعرفة، والجامعة المسجِّلة شرفَ المكان وشرف العلم، فالتوظيف الشرعي والمعرفي قمةٌ شاهقة وفَّقَ الله هذا الملك الصالح لغرس نبتها الطيب المبارك على مقربة من المسجد الحرام، وورثه بنوه من الملوك -رحمهم الله- من بعده (سعود، فيصل، خالد، فهد)، إذ اهتموا بالمكان اهتماماً كبيراً. وقد حكى لي مشافهةً العم الشيخ عبد الشكور فدا، شيخ الكتبجية والناشرين رحمه الله، أن الملك فهد رحمه الله كان يستعلم منه دائماً عن المكتبة، وكان داعماً لها مستطلعاً أخبار العناية بها، وعهد أمر تغذيتها بنوادر الكتب ونفائسها إلى الشيخ عبد الشكور، الذي كانت له به صله وثيقه وكبيرة. وأخبرني الشيخ أنه في جلسة مباسطة ودية ذاتَ يوم، فاتح الملك همساً -وبأدب وعفوية- حول ما أُشيع عن إمكان إزالة مكان المولد، فنظر اليه الملك وتبسم وقال: «يا عبد الشكور، دعك من هذه الطراطيش، هذا كلام فارغ... حِنّا (نحن) خدمة الحرمين الشريفين، ولا يمكن أن يحدث هذا، وهذه وصية أبينا الملك عبد العزيز رحمه الله»، فقبَّل الشيخ عبد الشكور رأس الملك وقال له: «حيَّاك الله من ملك، وحيَّا الله ابناء الملك عبد العزيز، وأدام بقاءكم». وجاء العهد الزاهر للملك الصالح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وفقه الله، فأولى العناية والاهتمام بالحرمين الشريفين مرتبةَ متقدمة، وللحرم المكي خصوصاً، توسعةً وتطويراً للساحات المحيطه به، لراحة الحجاج والمعتمرين والزوار، وأشرف بنفسه شخصياً على كل ما تحتاجه قبلة المسلمين من أموال وتطوير عمراني، مدعِّماً ذلك معنوياً ومادياً، وزائراً ومتفقداً بين آونة وأخرى المشاريع العملاقة في الحرمين الشريفين، التي أجرى الله على يديه كل خير لها.
إن من ينادي أو يدعو إلى إزالة هذا المكان المَعْلَم -الذي هو ملك للأمه الإسلامية- ومحوه، بحجة أو بأخرى، يدعو إلى إزالة أعظم شواهد التاريخ والتراث الإسلاميين وتحطيمه. إن ولاة أمر هذه الدولة، الحريصين على خدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما، وكذا رعاية ما تضم أرضهما من شواهد ومعالم إسلامية، هم بلا شك حريصون على الحفاظ على هذا الإرث النبوي، ليكون شاهداً للأجيال القادمة ومَن بعدَهم، فلا يحدث مثل هذا وفينا ملك رائد سائس للنهضة التراثية والعمرانية، يسانده ولي عهده الأمير سلمان، الذي عُرف داخلياً وخارجياً بحبه التراث الإسلامي واهتمامه به، وما ترؤّسه مركز مكة والمجلس الأعلى للحفاظ على تاريخ البلدين العظيمين مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلا دليل على اهتمامه الكبير.
وختاماً، نأمل في أن تتم إعادة تأهيل وتنظيم مكتبة «المولد النبوي» بصورة حضارية تراثية، وبناؤها على أصول معمارية حديثة، من دون المساس بالأساسيات أو تغيير المعالم، حتى لا تفقد تاريخها ورونقها التراثي والحضاري. وسوف تُكتب هذه المآثر في صحائف ملك البلاد وقائد مسيرتها التطويرية، ولي أمرنا الملك الإنسان عبد الله وولي عهده الأمير سلمان، وفقهما الله لكل خير وصلاح للعباد والبلاد والأمة الإسلامية قاطبة، وبالله التوفيق.
* أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة المقارنة في جامعة الملك عبدالعزيز - عضو مجمع الفقه الإسلامي
المصدر : دار الحياة 1434/6/3هـ
0 تعليقات