رحمة شبانة: تحقق أمن الحجاج في عهد الملك عبدالعزيز فكانوا يقيمون 8 أشهر

كان المطوف قديما يقوم بتطويف الحجاج حول الكعبة المشرفة، وتلقينهم الأدعية وإرشادهم لكيفية أداء النسك ومن هنا جاءت تسمية «المطوف»، كما كانت الطوافة شرفًا يحظى به القضاة، ثم العلماء، ثم الأعيان والوجهاء من أهل مكة المكرمة، سكان البلد الحرام، وكانت بيوتهم تفتح طوال العام لمن رغب في الإقامة بجوار البيت الحرام ولطالبي العلم، وكان من المقيمين من يساعد في خدمة الحجاج الذين يفدون من بلدانهم فيتكلمون معهم بلغتهم ويقومون بطلباتهم ويقضون لوازمهم حسب عاداتهم المعروفة لهم، وبمرور الزمن توسعت قاعدة المطوفين وعرف الحجاج في أقطارهم أن بمكة المشرفة كثيرًا من المطوفين ينتظرون قدومهم كل عام.


ولم تقتصر مهنة الطوافة على الرجال فقط، بل كانت للمطوفات المكيات مشاركات فعالة في أعمال الطوافة جنبا الى جنب مع المطوفين الرجال.. وكان من أشهر هؤلاء المطوفات وأقدمهن المطوفة رحمة شبانة التي تفتخر بأنها اقدم مطوفة في مكة المكرمة كما تقول، وأنها حظيت بشرف تطويف حجاج الجالية الشرق آسيوية على مدى عدة عقود، مشيرة الى الاختلاف الكبير الذي شهدته تلك المهنة في السنوات الأخيرة عما كانت عليه في الماضي.
«المدينة» التقت المطوفة شبانة، وأبحرنا معها في رحلة ممتعة الى الماضي الجميل وذكرياته الخالدة التي اثارت شجون المطوفة بين الماضي والحاضر.. فإلى نص الحوار:

البداية من هنا

*كيف كانت بدايتك في مجال الطوافة في هذا الزمن البعيد، خاصة أنك عاصرت الملك المؤسس رحمه الله؟
-أطرقت السيدة رحمة برأسها قليلا لتستعيد ذاكرة البداية، ثم قالت: كان والدي رحمه الله عبدالله شبانه مطوفًا، وكنت صغيرة حينما بدأ والدي بهذه المهنة التي غرس حبها في أعماقي، مشيرة الى صورة والدها التي كانت معلقة في جدار المجلس.. ثم أكملت: بدأت من خلاله ومن ملازمته اتعلم اسرار مهنة الطوافة، وكان عمري آنذاك حوالي الثلاثة عشر عاما في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله.
وكان والدي يسافر من أجلهم ويقوم بتسهيل أمورهم من هناك، ثم اذا حضروا نقوم باستقبالهم ونسعد بتوفير الغداء والعشاء والإفطار لهم وكانوا يبقون عندنا في مكة شهور شعبان ورمضان وشوال والقعدة والحج ومحرم وصفر وربيع الأول وفي يوم العيد كنا نقوم بتجهيز وجبة الافطار لهم والتي كانت تحتوي على وجباتهم المفضلة.
وتابعت: كنت صغيرة حينها وكنت أشاهد والدي رحمه الله وأتبعه في جميع خطواته في خدمة الحجاج، حيث كنت أبلغ حينها الثالثة عشرة من عمري في عهد الملك عبدالعزيز، وتزوجت بعد وفاته رحمه الله، وكنت أبلغ من العمر 16 عاما.

عهد المؤسس غير الموازين

*كيف ترين عهد الملك المؤسس بالنسبة لموسم الحج وأعماله، هل اختلف عن العهد السابق؟
- عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله غير الاحوال وقلب الموازين، فالحجاج الذين كانوا يأتون في فترات سابقة كانوا خائفين مرعوبين ولا يشعرون بالاطمئنان على انفسهم ولا على اموالهم، ونتيجة لهذه الاجواء كانوا يصلون الينا منذ شهر رجب، وكانوا يعيشون في قلق وغير مرتاحين.. اما في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله فقد شعروا بالأمان والاطمئنان، وكانوا يأتون في رمضان ويعيشون أيامهم في سكينة وطمأنينة حتى يغادروا الى بلادهم، ففي هذا العهد الزاهر بدأ الخير والامان معا.

الاحتفاء بالحجاج

*كيف كنتم تستقبلون الحجاج في الماضي، وما هي الخدمات التي كنتم تقدمونها إليهم؟
-كنا نستقبل الحجاج بسعادة بالغة، وكنا نرحب بهم وننشد لهم ونحتفي بوصولهم احيانا من الميناء واحيانا اخرى من بوابات مكة حين يصلون الينا وكنت ووالدي رحمه الله نحرص على خدمة الحجاج أكثر من أي شيء آخر مثل بقية المطوفين في ذلك الوقت وكان ذلك يتم من خلال استقبال الحجاج بالطلوع اليهم من مرة الى مرتين في اليوم الواحد للاطمئنان عليهم والسؤال عن أحوالهم والسؤال عن أي شيء يحتاجونه وهل سبق لهم الذهاب الى العمرة ام لا، وكنا نأخذهم الى المسجد الحرام لإرشادهم وتلقينهم الأدعية وإرشادهم لكيفية أداء النسك وتعليمهم كيفية العمرة من مرة الى مرتين يوميًا الى ان يجيدوها ثم يذهبون بعد ذلك وحدهم حيث نكون ملازمين لهم طيلة أيام الحج حتى في يوم عرفة نقوم بالخطبة فيهم والدعاء فيهم مرددين على مسامعهم ان الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة.

زقاق الوزير

كان والدي رحمه الله يقوم باستئجار سكن لهم وعندما كبرت أنا قمت باستئجار سكن لهم في «زقاق الوزير» لأني لا أعتمد على وعود السماسرة حيث كنت اعمل كل ما يحتاجه الحجاج بنفسي حتى اني كنت أسافر بنفسي الى ماليزيا واندونيسيا من أجلهم والتفاهم معهم، مرددة على مسامعهم ان السعودية تختلف تماما عن بلادهم وأن عليهم عدم تصديق وعود السماسرة والمطوفين، فهذا ليس خطأ المطوفين قدر ماهو خطأ الحجاج انفسهم الذين يصدقون وعودهم، وكنت شديدة التعلق بالحجاج في وقت شبابي، وأسعى لكسب رضائهم حتى اني كنت اقوم بتوفير كل شيء لهم.

الأثر والتأثير

*هل كنتم تتأثرون بعادات وتقاليد الحجاج والمعتمرين، وهل كانوا يتأثرون بكم أيضا؟
-بالطبع كان هناك تأثير وتأثر لكثرة احتكاكنا بهم، حيث كنت أسافر معهم وأعود معهم وأذهب الى المدينة المنورة معهم ايضًا لتزويرهم تأسيًا بوالدي رحمه الله كما كنت أذهب معهم الى مسجد القبلتين ومسجد قباء كما نقوم بإفهامهم أنه أول مسجد صلى فيه هو قباء ومن ثم نأخذهم الى مسجد القبلتين.
اما عن تأثرهم بنا فلا نلمس ذلك الا حين مغادرتهم لنا حيث كنت اصطحبهم الى المطار متحدثة بنفس لغتهم وكانوا يدعونني لزيارتهم في أوطانهم وهنا يتضح لي حبهم حينما يبكون لفراقنا ويطلبون زيارتنا في أوطانهم لأني كنت اسعى لكسب حبهم وارضائهم بكل الاشكال ومن ذلك تطبيبهم ومعالجتهم ورعاية مرضاهم والعاجزين منهم مبتغية بذلك وجه الله عز وجل.


حتى ان سلطان ماليزيا منحني نيشانا لقاء هذه الاعمال الانسانية الجليلة، أما ملكة ولاية كلنتن التي اتصلت بي أربع مرات وكنت اعتذر عن عدم قدرتي على استضافتها وخدمتها لانشغالي بخدمة ضيوف الرحمن، وأشرت عليها ان تذهب الى ضيافة الملك وذلك لاني خفت اذا لم أقم بخدمتها على الوجه الأمثل يضايقها هذا، ولذلك عندما رأتني في بلدها في احدى المرات احترمتني كثيرًا وأحبتني وكافأتني لحسن صنيعي واتخذتني صديقة لها حتى وافتها المنية، وكانت تحتفي بي وتقول يكفيني انك أرحت شعبي.

صراع السماسرة

*ماهي أصعب المواقف التي واجهتك خلال فترة عملك؟
-عندما سافرت إلى ماليزيا للاتفاق مع الحجاج كان السماسرة في ذلك الوقت يريدون قتلي هناك، وكان ذلك في احدى رحلاتي لزيارة اقارب زوجي وذويه الذين كانوا يعيشون هناك ولعرض خدماتي على بعض من يعتزمون الحج وكان البعض منهم يعيشون في الارياف والطرق غير المعبدة وكنت كثيرا أعود الى بيتي في وقت متأخر لان غالبية زبائني موظفون ولا يمكنني زيارتهم الا في المساء.


وذات يوم وفي طريقي الى أحد زبائني الذين يعيشون في الارياف، فوجئت بمجموعة من قطاع الطرق الذين قاموا بوضع اشجار النارجيل او جوز الهند في طريقي، ولكن بفضل من الله كان معي سائق ماهر وخبير بأمور هؤلاء، فأشار علي ان هذه الفعلة كانت بتدبير من احد المطوفين أو السماسرة الآخرين، وقام سائقي الشجاع بالتصفير لهم وما هي الا لحظات حتى وجدت الجميع من حولنا وأخذ يأمرهم بإزالة كل ذلك من هناك وعدم التعرض ثانية لي وبعدها لم أشاهدهم ثانية.

مطوفو اليوم

*كيف ترين مطوفي اليوم مقارنة بالماضي، وهل تودين عودة الطوافة النسائية؟
-للأسف الطوافة اليوم تفتقر الى الاخلاص والعمل الجاد من أجل الحجاج، وأدعو جميع المطوفين الى تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن.. وما يضايقني اليوم هو ابتعاد المطوفين عن الحجاج طيلة أيام الحج، وعدم تواجدهم لخدمتهم والزج بهم في أيدي أرباب حملات لا يحسنون التعامل معهم، كما أن من أسوأ ما يجري هو اتخاذ بعض المطوفين لهذه المهنة بالواسطة.


أما عن الطوافة النسائية فبكل تأكيد أتمنى ان تعود مهنة الطوافة الى النساء، لأنهن الأكثر تلمسًا لحاجات الحجاج وأكثر رحمة ورأفة بهم.


- في زمن والدي أي في عهد الملك عبدالعزيز رحمهما الله كان هناك ما يسمى بـ»اللوري» الى جانب الجمال، غير أن بعض الحجاج كان يفضل الجلوس على تلك الالواح الخشبية التي يحملها أربعة أشخاص، وعندما تقدم الزمن وفي زمني بدأت تظهر الحافلات، وسردت كيف أن مجموعة من حافلاتها سرقت من قبل بعض المطوفين الذين تركوا لي أربعة حافلات فقط لنقل 2000 حاج، فما كان منها الا الاستنجاد بالأمير فواز، ودخلت عليه قائلة: «يا سمو الأمير احتاج الى مساعدتك ورجالك، لان المطوفين سرقوا سياراتنا»، فأجابني مستغربًا وهل تستطيعين الذهاب معهم؟ فقلت نعم، فأرسل معي شخصا تابعا لوزارة الحج يسمى زامل، فقال لي مازحًا ونحن في الطريق انت مصيبة، مشيرا الى حجم الثقة والبساطة التي كانت تعتمر قلوب الاشخاص في ذلك الوقت.

المصدر : جريدة المدينة