مساجد مكة معالم على طريق الرسالة
«مكة كلها حرم».. نعم لكن مكة ليست كلها المسجد الحرام، بل توجد في العاصمة المقدسة آلاف المساجد، منها ما شهد البداية الأولى للرسالة المحمدية الخالدة، ومنها ما سبق ذلك، من تلك التي حظيت بمرور أنبياء الله عليهم السلام بها.
وجود بيت الله الحرام في مكة المكرمة قد لا يسمح بالحظوة الكبيرة لتلكم المساجد التي لو كان أحدها في عاصمة إسلامية ما لأصبح مزارا ومعلما، لكن على الرغم من ذلك فإن جوامع ومساجد خير بقاع الدنيا لم يغب عنها الاهتمام في عصور إسلامية متتابعة من قبل ساسة وعلماء، وهو اهتمام لم تلقه غيرها في أصقاع الدنيا، وحق لها ذلك؛ إذ إنها رسمت على ذاكرة الزمن ملامح بداية الفن المعماري الإسلامي، فضلا عن أقدميتها وصلاة خير المرسلين بها.
أبرز تراث مكة المكرمة المعماري يتركز بمساجد البيعة وجعرانة والجن والخيف والراية وعائشة والصخرات والمشعر الحرام ونمرة، تسع مساجد يزخر بها تراث الحجاز، واكتسبت أهمية إضافية للمواقف التاريخية التي حصلت بها.
فمسجد البيعة تمت على أرضه أول بيعة في الإسلام، ويجاوره مسجد الجن الذي تلقى فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بيعة الجن، ومسجد الخيف الذي شهد صلاة الرسل فيه، ومساجد أخرى نزل بها القرآن الكريم، ومنابر ساهمت في بث خاتمة الرسالات السماوية وإيصالها للعالم أجمع، فأغلب هذه المساجد ما زالت تربط الماضي بالحاضر وهي شاهد على عظمة تاريخنا الإسلامي.
يعود تاريخ مسجد البيعة إلى عام 761م عندما قام ببنائه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، وذلك في الموضع الذي تمت فيه البيعة، تخليدا لذكراها، ويقع على بعد 500 متر تقريبا من جمرة العقبة الكبرى، ويشاهده الحجاج العابرون لمنطقة الجمرات، هذا المسجد عبارة عن مصلى لا سقف له، يحوي محرابا وملحقا معه فناء أكبر من مساحته، يطل على منى من الناحية الشمالية في السفح الجنوبي لجبل ثبير المطل على الشعب المعروف باسم شعب الأنصار أو شعب البيعة.
ويوجد في الجامع الصغير حجران كتبت على أحدهما عبارة «أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببنيان هذا المسجد»، في إشارة إلى الخليفة العباسي، كما يحوي رواقين من الجهتين الشامية واليمانية بطول 23 ذراعا وعرض 14.5 ذراع، كل منهما مسقوف بثلاث قباب على أربعة عقود وبابين، وطول المسجد من محرابه إلى آخر الرحبة 38 ذراعا تقريبا، وما زال المسجد يحتفظ بشيء من مساحته ونقوشه الإنشائية الأثرية؛ إذ يوجد به نقش إنشائي يؤرخ لعمارته، وآخر تذكاري من الفترة نفسها، ونقش إنشائي مؤرخ في سنة 1228.
وقد ظل المسجد متواريا عن الأنظار خلف الجبل، ومع التوسعة الجديدة وإزالة الجبل في إطار التوسعة في مشعر منى لطرق المشاة والحافلات، ضمن مشروع منشأة الجمرات، ظهر جليا للجميع بالقرب من جسر الجمرات.
ولقد تمت بيعة العقبة الأولى في هذا الموضع من منى سنة 621م، حيث بايع 12 شخصا من قبيلتي الأوس والخزرج من المدينة المنورة - التي كانت تسمى يثرب في ذلك الحين - النبي عليه الصلاة والسلام على البنود المعروفة، كما أن بيعة العقبة الثانية كانت أيضا في هذا الموضع، وذلك أثناء موسم حج سنة 622م، وحضر هذه البيعة 73 رجلا وامرأتان من أهل يثرب، ودعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى المدينة، وقالوا: إلى متى ندع رسول الله يطرد في جبال مكة؟ وعرفت هذه البيعة أيضا ببيعة العقبة الكبرى، وبنى أبو جعفر المنصور سنة 761م مسجدا في موضع البيعة، كما هو مصرح في اللوحة التي لا تزال مثبتة في جدار المسجد للقبلة من الخارج، وهو مكون من فناء مكشوف تتقدمه مظلة.
وقد كان موضع اهتمام وعناية خلفاء المسلمين على مر التاريخ، وبناؤه الحالي عثماني مبني من الحجر والجص.
ومن المساجد الأثرية في مكة المكرمة «مسجد الجِعرانة»، ويقع في قرية الجعرانة، وهي قرية صغيرة قريبة من الحرم، يعتمر منه أهل مكة، وهي حد الحرم المكي من الناحية الشمالية الشرقية، نزله النبي، صلى الله عليه وسلم، وأحرم منه لعمرته الثالثة، وقد رُمِّم هذا المسجد ووسع مرارا عبر التاريخ، ومكانه الآن مسجد بني حديثا.
أما «مسجد الجن» فيعد من المساجد المهمة في مكة المكرمة، واستمد هذه الأهمية لوقوع عدد من الحوادث فيه، فقد تلقى نبي الهدى، عليه الصلاة والسلام، بيعة الجن فيه، وبترابه موضع الخط الذي اختطه الرسول عليه الصلاة والسلام لابن مسعود، وفي إحدى الليالي استمع فيه نفر من الجن إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو القرآن، ونزلت سورة الجن.
ويقع المسجد أمام مقبرة المعلاة في مكة المكرمة، ويسميه بعض أهل مكة مسجد الحرس، وجدد أكثر من مرة عبر العصور الإسلامية، وآخر تجديد له جاء في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، خامس ملوك المملكة العربية السعودية، عام 2000.
ومن مساجد مكة المكرمة الأثرية «مسجد الخيف»، ويقع على سفح جبل منى الجنوبي قريبا من الجمرة الصغرى، وقد صلى فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله، وقد كان هذا المسجد موضع اهتمام وعناية خلفاء المسلمين على مر التاريخ، ووسعت عمارته في سنة 1987م، وبه أربع منارات، ومزود بجميع المستلزمات من إضاءة وتكييف وفرش ومجمع لدورات المياه، مع أكثر من ألف دورة مياه وثلاثة آلاف صنبور للوضوء.
ومن تلك المساجد أيضا «مسجد الراية»، وهو من المساجد التي صلى بها النبي، صلى الله عليه وسلم، وبناه عبد الله بن العباس بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم بناه بعد ذلك الخليفة المستعصم العباسي سنة 1242م، وعمّره بعد ذلك الأمير قطلبك الحسامي المنحلي سنة 1399م، وبني بعد ذلك بستمائة عام تقريبا في عهد الملك فهد، ويقع المسجد بالمكان المعروف بالجودرية.
أما «مسجد عائشة» فهو من المساجد التاريخية التي يزخر بها تراث مكة العريق، وسمي باسم زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، عائشة رضي الله عنها، ويقع بالتنعيم، ويسمى بمسجد التنعيم ومسجد العمرة، اعتمرت منه أم المؤمنين عائشة بعد حجها عام 631، ويبعد عن المسجد الحرام بنحو ستة كيلومترات، وقد تم تجديده وتوسعته في عهد الملك فهد أيضا على مساحة 84 ألف متر، ويستوعب نحو 15 ألف مصل، ويعتمر منه اليوم أكثر المعتمرين من داخل مكة المكرمة لقربه من المسجد الحرام.
وعلى صعيد عرفات الطاهر يربض «مسجد الصخرات»، ويقع أسفل جبل الرحمة على يمين الصاعد إليه، وهو مرتفع قليلا عن الأرض، يحيط به جدار قصير، وفيه صخرات كبار وقف عندها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عشية عرفة وهو على ناقته القصواء، وفي هذا الموقف نزل عليه، صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وأحيط هذا الموقف بجدار طوله من جهة القبلة 13.3 متر، والجدار الذي على يمينه ويساره 8 أمتار، أما الجدار المقابل للقبلة فدائري غير مستقيم.
ومن المساجد الأثرية «مسجد المشعر الحرام»، وفيه نزل النبي، صلى الله عليه وسلم، عند قبلته في حجة الوداع، ويقع في منتصف المسافة تقريبا بين مسجدي نمرة في عرفات والخيف في منى، لكون مزدلفة واقعة بين عرفات في شرقها ومنى في غربها.
كان المسجد في بداية القرن الحادي عشر مربع الشكل متواضع المساحة والبناء، ويحيط به سور مربع الشكل، ولا يوجد بداخل المسجد مظلات، وفيه ستة أبواب: باب في القبلة، وبابان في الجدار الأيمن، وبابان في الجدار الأيسر، وباب في مؤخر المسجد.
وفي العهد السعودي تمت عمارته وتوسعته عام 1975م على الشكل المستطيل، وبلغت مساحته نحو 5 آلاف متر مربع، بطاقة استيعابية بلغت 12 ألف مصل، وطوله 90 مترا بين الشرق والغرب، وعرضه 56 مترا، ويزدان المسجد بمنارتين ارتفاعهما 32 مترا، وله ثلاثة مداخل في كل من الجهة الشرقية والشمالية والجنوبية، ونوافذ وشرفات مسننة تلتف حول سطحه.
وقد أعيد بناء المسجد على الشكل المستطيل، وبني بالآجر المغطى من الخارج بالأحجار المصقولة، وتخطيطه عبارة عن كتلة ضخمة من البناء مغلقة مقسمة من الداخل بمظلات مكونة من عقود (أسقف) نصف دائرية محمولة على أعمدة أسطوانية.
ومن المساجد المشهورة جدا في مكة «مسجد نمرة»، وهو من أهم المعالم في مشعر عرفات، وبه يصلي عشرات الآلاف من ضيوف الرحمن صلاتي الظهر والعصر في يوم عرفة جمعا وقصرا؛ تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وبني المسجد في الموضع الذي خطب فيه الرسول، عليه الصلاة والسلام، في حجة الوداع، وذلك في أول عهد الخلافة العباسية في منتصف القرن الثامن الميلادي.
ومر المسجد بتوسعات تمت على مر التاريخ، وبعد اتساعه أصبحت مقدمة المسجد خارج عرفات، ومؤخرة المسجد في عرفات، وهناك لوحات إرشادية تشير إلى ذلك لكي يعرف الحجاج مواقفهم.
وشهد مسجد نمرة أكبر توسعة له في التاريخ أثناء الحقبة السعودية، ويبلغ طوله من الشرق إلى الغرب 340 مترا، وعرضه من الشمال إلى الجنوب 240 مترا، وتقدر مساحته بأكثر من 110 آلاف متر مربع، وتوجد خلف المسجد مساحة مظللة تقدَّر مساحتها بـ8 آلاف متر مربع، ويستوعب نحو 350 ألف مصل، وله ست مآذن، ارتفاع كل منها 60 مترا، وله ثلاث قباب، وعشرة مداخل رئيسية تحتوي على 64 بابا، وفيه غرفة للإذاعة الخارجية مجهزة لنقل الخطبة وصلاتي الظهر والعصر ليوم عرفة مباشرة بواسطة الأقمار الصناعية.
وعلى مقربة من مكة يوجد «مسجد الحديبية» الذي يقع في منطقة الحديبية، وهي موضع مشهور في طريق جدة القديم، يعرف اليوم بالشميسي، لأن رجلا بهذا الاسم حفر بئرا فيها، فنسب إليه ثم أطلق الاسم على المنطقة التي تبعد عن المسجد الحرام قرابة 25 كم.
وفي هذه المنطقة في عام 628 تمت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، وفيها وقع الصلح بين المسلمين وقريش لعشر سنين، وكتبه علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، لكن نقضه المشركون بعد سنتين مما عجل بفتح مكة، وهذا الصلح معروف بصلح الحديبية، وفي المنطقة مسجد آخر يعرف بمسجد الرضوان، وفيها أيضا مسجد حديث، وآخر قديم يقع إلى جانبه.
وتزدان مكة عوضا عن مساجدها بأسواق وأزقة وجبال شهدت البداية التاريخية المبكرة لمنهج الله الخالد، ولكتابه الجامع، ونبيه الكريم، يعرف الكثير منها أهل مكة الأدرى بشعابها، كما يقول المثل العربي الشائع.
المصدر : الشرق الاوسط 1432/12/14هـ العدد : 12035
0 تعليقات