تاريخ مكتبة الثقافة بمكة المكرمة


بقلم الشيخ |  صالح محمد جمال رحمه الله

لقد كان إنشاء هذه المكتبة وليد الصدفة فقد كنت أجلس في نافذة سكني الذي يطل على المسعى في أوائل عام 1364هـ وكان يزورني الصديق الأستاذ محمد حسين اصفهاني ومر من الشارع الأستاذ عبدالرزاق بليلة فلمحني وأشرت اليه بالصعود فصعد إلينا ثم لحقه الصديق الأستاذ أحمد ملائكة بعد ان كان في طريقه الى سكن آل ملائكة في الزقاق الذي طغى عليه اسم زقاق ملائكة بالمدعى وهو زقاق الطبري حيث يوجد به مدفن إمام من أئمة العلم من آل الطبري ولا يزال ..

قبل هذه الجلسة كان الصديق الاصفهاني قد اوكل إلي وأنا موظف بالمحكمة الشرعية الكبرى ان اتولى توزيع مجلة المختار وكانت تصدرها دار نشر أمريكية في طبعة ممتازة ترجمة عن مجلة علمية أمريكية اسمها ريدرز داجست كمختارات منها لتباع بسعر رمزي هو ثمانية قروش دارجة وكان يرسلها الى طرودا كصديق وأنا اجمع صبيان الحارة يوم وصولها لأحسبها عليهم بسبعة قروش ويبيعونها بثمانية اي يحصلون على ربح قرش وهو ربح مجز بل مغر حينذاك ..

وكان الحديث يومها عن المجلة وتوسيع نطاق توزيعها ...ثم تطور الى سؤال : لماذا لانقوم بإنشاء مكتبة أدبية ثقافية لتحقيق طموحات الشباب المكي ...ولم يكن بمكة المكرمة يومئذ مكتبة كهذه فقد كانت كل المكتبات تركز على الكتب الدينية والمراجع والمصاحف بمختلف أنواعها وأحجامها باستثناء مكتبة واحدة في باب السلام الكبير هي مكتبة أحمد حلواني ودكانين بالقشاشية هي دكان الشيخ قاسم الميمني ودكان الشيخ مصطفى يغمور تستوردان نسخا محدودة من مجلة الرسالة ومجلة الثقافة ومجلة الهلال تتسابق إليها الأيدي بمجرد وصولها احيانا أجدها وأحيانا أخرى لا أجدها .......

دار الحديث سجالا واستعد الصديق احمد ملائكة بحكم تردده تلك الأيام بين مكة والقاهرة ان يورد لنا الصحف والمجلات ويحصل لنا على وكالات لتوزيعها بالمملكة كما يفعل ذلك بالنسبة لدور النشر المصرية ويورد لنا مختارات من الكتب ...

واستعد أخونا الأستاذ الاصفهاني ان يتولى القيام بتخليص ما يردنا من الجمارك بجدة ويرسله الينا ويتولى فرع المكتبة في جدة وقال الصديق الأستاذ عبدالرزاق بليلة بأنة مستعد لإدارة المكتبة بمكة المكرمة وتطوعت انا بإدارة الشركة وحساباتها ومراسلاتها ومساعدة الصديق عبدالرزاق بليلة في المكتبة ...

وبعد ان وصلنا الى هذه النقطة راحت السكرة وجاءت الفكرة - كما يقول المثل - أين نجد الموقع الذي نقيم فيه المكتبة وكان مقر المكتبات باب السلام كبيره و صغيره وليس فيه دكان شاغر وخروجنا عن هذه المنطقة لا يضمن لنا النجاح وخصوصا أننا عزمنا إلا نعتمد على أرباح الصحف والمجلات والكتب الأدبية فقرا هذه الأصناف من الغلبانين أمثالنا الذين يوفرون اثمان ذلك من مصاريفهم الشخصية وعلى حساب رفاهيتهم ولكن نعتمد على أرباح الكتب الدينية والمصاحف التى تروج سوقها في موسم الحج ولو ابتعدنا عن هذا السوق -سوق باب السلام - فلن نفلح وسيكون الإفلاس نصيبنا .

وأعملنا فكرنا ونبشنا في ذاكرتنا حتى تذكرنا الصديق عبدالحليم الصحاف وهو صاحب مكتبة بباب السلام الصغير أبا عن جد كما يقولون ولكنه قفل المكتبة وتوظف في مديرية الأوقاف بمكة المكرمة قبل ان تصبح وزارة ولكنه متمسك بالدكان يستأجره ويجلس فيه كل جمعه لمجرد الصلاة وكنت انا اجلس معه ونصلي الجمعه أمام باب الدكان ..

تمسك بالدكان خوفا من غدرات الوظيفة فقد يضطر الى الرجوع الى صنعة أبيه وفوضني الأخوان بالتفاوض معه ولقيته يوم الجمعه كالمعتاد وبحثت الأمر معه فكان جوابه انه لا يستطيع التخلي عن الدكان إلا ان يكون شريكا معنا في المكتبة الجديدة فوافق الزملاء وعقدنا الشركة واستلمنا الدكان وفتحناها ...وتبرع لنا الزميل احمد ملائكة بمكتبته الخاصة لنزين بها رفوف المكتبة لئلا تظهر خاوية على عروشها ...وبدأنا بالصحف والمجلات وجعلنا شعارنا المطبوع على أوراقنا -اربح قليلا تكسب كثيرا - وبدأت طرود الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية فقط ولم نتورط في اي صحيفة يومية لان البريد كان يصل من مصر في الشهر مرتين فقط وعلى البواخر فكانت المجلات الأسبوعية  تأتي كل عددين معا والشهرية عددا واحدا وكنا نشترط على المشتري ان يأخذ العددين معا ...

واقبل القراء من كل صوب على المكتبة وشجعها الأدباء وتقاطر الطلاب وصرنا نلاحق الزيادات لتحقيق رغبة القراء ثم بدا وصول الكتب الأدبية الحديثة من مؤلفات مشاهير الأدباء في مصر والعالم العربي اذ كانت مصر هي المصدر الوحيد للمؤلفات العربية حتى لحقت بها لبنان بعد عدة سنوات كثيرة فتعاملنا معها ...

بعد ذلك استقال الزميلان محمد حسين اصفهاني واحمد ملائكة من الشركة لتفرغهما لاعمالهما بعد ان احمد ملائكة الى مصر نهائيا وأسس مطبعة هناك وتوظف الزميل عبدالرزاق بليلة بالأمن العام وتفرغت انا بالاستقالة من الأمن العام -بعد ان انتقلت اليه من المحاكم الشرعية - لأعمال المكتبة مستعينا بموظف ...

في هذه الأثناء فكرت في توسيع نطاق نشاطات المكتبة بالدخول في مجال النشر وأنا اعلم ان كثيرا من الأدباء السعوديين لديهم مؤلفات لا يستطيعون طبعها ونشرها على حسابهم خوفا من المغامرة فبدأت المكتبة بنشر ديوان للأستاذ طاهر زمخشري تحت عنوان المهرجان ثم ثنت بكتاب تاريخ مكة للأستاذ أحمد السباعي ونجح الثاني واخفق الأول لأنني استطعت ان انظم حملة إعلانات عن تاريخ مكة استغللت فيها أسماء بعض الأسر المكية التى ورد ذكرها في الكتاب وبعض الأحداث الغريبة من تاريخ مكة فاقبل القراء على الكتاب ونفذ بسرعة وجرى طبعه بعد ذلك من المؤلف عدة طبعات ...

ولا تزال مكتبة الثقافة مستمرة في مسيرتها وشعارها أيضا وهي أول مكتبة - او على الأصح أول محل - في مكة المكرمة يلتزم بالسعر المحدد فلامجال عندها للمساومة فكان ذلك مثار غضب عند البعض في أول النشأة حي تعودوا على المساومة ولكنهم بعد ذلك رضوا .

وخلال مسيرة المكتبة افتتحت فرعا لها بالطائف بمشاركة الأخوين عبدالرزاق كمال ومحمد حسن كمال في باب الريع وفرعا أخر بمدينة جدة في باب مكة عمارة الموصلي ولكنها أخفقت وقفلت أبوابها بعد سنتين وفرعا ثالثا في أجياد هو الأخر اخفق وجاءت إزالة موقع المكتبة فرصة لإقفالها ..

ولها فرع بالحجون يكاد يكون هو الأصل بعد ان طردت مكتبة الثقافة الام من باب السلام الصغير الى القشاشية ثم سوق الليل حتى انكمشت في كشك وهى الان على وشك الانتقال منه بسبب مشروعات توسعة المسجد الحرام وماحوله للتوسعة على المصلين من ضيوف الرحمن في سلسلة المشروعات العملاقة ....والله الموفق والمستعان


من كتاب ::: رحلتي مع المكتبات (مكتبات مكة المكرمة )

تأليف : عبدالعزيز أحمد الرفاعي

1413هـ