القيم الروحية والحضارية لفريضة الحج

يشير البعض في معرض حديثه عن «جوهر العبادات في الإسلام» إلى خاصية كونها عبارة عن مجرد صور وأشكال يقصد بها التقرب إلى الله تعالى؛ بمعنى أنها «توفيقية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها»، وليس مطلوبا من المؤمنين بها أن يسألوا عن هيئاتها، بقدر ما هو مطلوب منهم تحقيقها وإقامتها باطنيا. ومن بين القائلين بهذا الرأي عباس محمود العقاد في كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه».

والواقع الذي لا شك فيه أن التأكيد على أن العبادات محض رسوم وأوضاع ليس إلا، فيما الدين (في جوهره) يعد من الأمور الباطنة في العلوم والأعمال، بحيث لا تنفع الأعمال الظاهرة التي هي داخلة في نسيجه من دون تحقق الأعمال الباطنة؛ كل ذلك يجد رصيدا له ضمن تضاعيف الكتابات الصوفية، وفي أعطاف مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، خاصة في كتابيه: «العبودية»، و«التحفة العراقية في الأعمال القلبية».

ويترتب على ذلك؛ أن جوهر العبادة في الإسلام هو نفسه جوهر الدين من حيث هو اعتقاد في المقام الأول. كما يترتب على ذلك أيضا أنه لا قيمة للعبادة بصورها الظاهرة من دون توافر هذه الأمور الروحية الباطنة؛ فإذا كانت الأعمال الظاهرة مطلوبة بوصفها داخلة في الدين - من حيث أنها تعبير عن طاعة الله - فإنها لا تساوي شيئا بغير «أعمال القلوب» التي تعد أصلا من أصول الدين وقواعد الإيمان.

وإذا كان الإسلام في أحد أهم معانيه يعني «الاستسلام لله»؛ فإن مثل هذا الاستسلام لا يتأتى بتمامه إلا من خلال الإخلاص والصدق في الإقرار بالعبودية لله تعالى. ومن ثم؛ فإن الإسلام لا يفي وحده للتحقق بهذا الأصل الإيماني على هذا النحو الأخير، إذ لا يكفي الإقرار بالشهادتين عن طريق اللسان، وإنما تحقيق معنى الاستسلام ظاهرا وباطنا لله في آن معا. وبالتالي، الترقي إلى درجة الإيمان بحسب ما ورد في حديث جبريل عليه السلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) حين سأله عن معانى، أو بالأحرى مراتب، الإسلام والإيمان والإحسان.

ففي مرتبة الإيمان هذه لا ينفك عمل الجوارح الظاهرة عن عمل الجوارح الباطنة بحال من الأحوال. ومن هنا كان تعريف الإمام ابن القيم للإيمان في كتابه «الفوائد» بأن: «ظاهره قول باللسان وعمل بالجوارح الظاهرة، وباطنه كذلك تصديق بالقلب وانقياد ومحبة الله، [بحيث] لا ينفع ظاهر لا باطن له».

أيضا إذا كان جوهر الدين والعبادة أمرا واحدا، وفق ما تقدم، فإن ذلك يعني أن الدين والقيم/الأخلاق أمران لا ينفصلان ما دامت الأعمال القلبية ضرورة ملازمة لكافة صور العبادات، وما دام معنى الإيمان نفسه لا يتحقق إلا بارتباط الجوارح الظاهرة والباطنة معا. لذا لا تنفصل العبادة في الإسلام عن هذا الجانب القيمي الذي هو أساس الدين، ومن ثم أيضا كان تأكيد الشيخ الإمام محمد عبده في «رسالة التوحيد» أن الدين يعد من أقوى العوامل المؤثرة في أخلاق العامة والخاصة على حد سواء، وأن الله لم يفرض من الأعمال إلا لما أوجب من التحلي بمكارم الأخلاق.

وفي المحصلة؛ ينبغي أن تنعكس آثار العبادات على سلوك المؤمن في حياته وعلائقه بالناس، فما لم تكن العبادة على مثل هذا النحو فإنها تصبح بمثابة صورة بلا روح أو هيكلا فارغا بلا مضمون، بحسب تعبير أبو الوفا الغنيمي التفتازاني في كتابه «مدخل إلى التصوف الإسلامي». أما فيما يتعلق بفريضة الحج؛ فيمكن القول إنها تشتمل على مجموعة من القيم التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع معا.

والواقع أن الحج فريضة جامعة لأنه يضم أركان الإسلام جميعا: الشهادة باعتباره يقوم على توحيد الله واتباع سنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) في أقواله وأفعاله، والصلاة التي تعدل في ثوابها وقيمة كل واحدة منها ألف صلاة في غير المسجد الحرام. ومن أعمال الحج أيضا الزكاة بمعناها العام، والصيام تطوعا أو فدية لمن عجز عن أداء بعض شعائر الحج أو فاته شيء منها أو أتى بعضا من المحظورات.

وإلى جانب هذه الأركان الأربعة التي يجمعها الحج هنالك فريضة الجهاد لأن الحج في الأساس تلبية للنداء الإلهي بالتجرد والتجمع في الأراضي المقدسة. فالحج فريضة جماعية تستهدف تحقيق غايتين رئيسيتين:

أما الغاية الأولى؛ فهي تجريد الإنسان من كافة ما التصق به أو خالطه من مواريث فكرية أو اجتماعية ومن امتيازات طبقية أو جنسية تقطع الصلات الإنسانية بينه وبين المجتمع. ومن ثم يأتي الحاج متجردا من كل زينة أو إشارة في لباس متواضع يتساوى فيه الجميع، كما يجيء متجردا كذلك من جاهه وسلطانه، من عصبيته وطبقته، نكرة بين الملايين، لا سيدا منتفخ الأوداج يمضي مفتخرا بين الأتباع والعبيد. وهو يجيء متجردا أيضا - أو بالأحرى متحررا - من أغلال العبودية والفقر، فلا يرى للغني المدل بغناه، ولا للجبار المعتز بسطوته، ولا للأبيض المستعلي بلونه، لا يرى لكل أولئك فضل ولا امتياز سوى المساواة! أما الغاية، أو القيمة الثانية، فهي التوحيد لأنه حين يتم التجريد ويتساوى الجميع يسهل على النفوس أن تتقبل معاني التوحيد فتتلاقى عليها، تأخذ منها بقدر ما تعطي، لا تستأثر ولا تحتكر، لا تحقد ولا تحسد، لا تضل ولا تشقى.. إلخ. وما دامت العبادات تشتمل على هذا التوجيه الأخلاقي والنزوع الروحاني - فضلا عما لها من فوائد اجتماعية وأخروية - فإن المتصوفة قد اهتموا بهذا الجانب اهتماما ملحوظا فمارسوها بزواياهم وخوانقهم وذكّروا المريدين بفائدتها عبر العديد من وسائل التربية الروحية.

يتحصل مما سبق، أن عماد القيم الروحية والأخلاقية في الإسلام إنما يتجسد في تحقق الوازع الديني العميق في نفس الإنسان وتأصيله بحيث تقوى شخصية المؤمن حسيا ونفسيا، دينيا ودنيويا، ماديا ومعنويا. فمن المعلوم أن الإنسان إنما يتمسك بالخير وبخصال البر: إما لفائدة عاجلة يرجوها، أو لثواب آجل ينتظره، أو لضرر يريد دفعه عنه، أو لإعجاب وإيمان بالخلق الكريم بحد ذاته دون انتظار ثواب عاجل (شكر الناس، المدح) أو آجل (دخول الجنة).

والوازع الديني الصادق يحقق لصاحبه كل هذه المعاني مجتمعة، فهو الذي يحدثه دائما بأن الدين المعاملة، وأن الخلق المستقيم يجلب لصاحبه سعادتي الدنيا والآخرة، مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

إن المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يدرك أن بلوغ أرقى مراتب الوعي الإنساني مرتبط بالدرجة الأولى بإدراك موقعه من الكون والحياة، وأن جوهر العبادة يجيب بسهولة بالغة عن الأسئلة الثلاثة التي حيرت الإنسانية ردحا طويلا من الزمان، ألا وهي: من أين؟، وإلى أين؟، ولماذا؟ حيث عبرت الآية القرآنية الكريمة: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ» عن الغاية الكبرى التي انتدب الله سبحانه الإنسان لأجلها، بعد أن عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا».

المصدر : جريدة الشرق الاوسط , العدد : 11676 بقلم : محمد حلمي عبدالوهاب .