عبد الله يحيى الجفري أول مدير عام للجوازات والجنسية في المملكة

 

أمضى عبد الله يحيى الجفري أول مدير عام للجوازات والجنسية في المملكة في 1/7/1382هـ، معظم سني عمله في الأمن العام ووزارة الداخلية كاتبا لقيد الأوراق الصادرة والواردة في شرطة العاصمة المقدسة منذ عام 1365، وفي القسم العدلي محققا في العديد من القضايا أشهرها جريمة قتل معقدة وقعت في وادي فاطمة عندما قتل شخص في خلاف على بئر. وأثناء ذلك لعب الجفري دورا مهما في فصل الجوازات التي كانت تقبع في ذلك الوقت في مبان مستأجرة عن الأمن العام، فأسس مبنى لجوازات الرياض، وآخر لجوازات جدة، وحول عددا من مبانيها المستأجرة إلى مبان مستقلة، كما ساهم في تعليم عدد كبير من موظفي الجوازات اللغة الإنجليزية على أيدي أساتذة من بريطانيا، وأدخل الكومبيوتر في أعمالها، مستعينا بخبراء من لبنان لتعليم الموظفين طريقة استخدامه. ونهض الجفري بكل هذه الأعمال مجتمعة قبل أن يتولى بلدية جدة التي كانت تعاني وقتها من تعديات الأراضي بصورة مقلقة، وتعج شوارعها بالكلاب الضالة والعربات التي تجرها الحمير( الكارو) وعربات الماء (البراميل)، وبعض شوارعها يضاء بـ(الأتاريك» حتى منتصف الليل.

عمل الجفري على إيقاف هذه العربات واستبدالها بالدبابات وأحرق القمائم، وأنشأ قسما للنظافة الليلية، وقضى على ظاهرة الكلاب المنتشرة، واستبدل الأكشاك الخشبية بأكشاك الألمونيوم، ثم بدأ في ذلك الوقت المبكر في مشروع مجاري جدة، ومد خطوط التصريف إلى جنوبها. وفي هذا الحوار يتذكر الجفري كيف أن أمه بكت بحرقة عندما أخبرها برغبته في السفر إلى مصر ليكمل تعليمه إثر تخرجه في مدرسة تحضير البعثات أسوة بزملائه، وكيف أنها رفعت يديها للسماء وسألت الله ألا يبلغه مراده خوفا عليه من أن يصيبه مكروه هناك، مستعيدا نشأته الأولى، وزملاء دراسته، وأيام عمله في الأمن العام والداخلية، وبلدية جدة.

• ماذاعن بدايات حياتك الأولى؟
ــ ولدت في مكة المكرمة عام 1344هـ، ونشأت بها يتيما لأن والدي توفى وعمري لم يتجاوز الخمسة أعوام، وكنت وحيد والدي لأن أخوتي الثلاثة جميل ومحمد وعمر بالإضافة إلى بنتين أصيبوا بمرض الجدري، الذي كان منتشرا في ذلك الوقت مما أدى إلى وفاتهم لأن وسائل العلاج كانت بدائية تعتمد على الوصفات الشعبية، ولم يبق لي وقتها إلا أخت من أمي من زوج سابق، وعلى الرغم من أنني تعرضت للمرض لكن الله أكرمني بالشفاء، وعندما أحس والدي بدنو أجله أوصى ابن عمي بأن يكفلني لأنه كان خائفا على مستقبلي، لأن والدتي ليس لها أهل، فوالدتي من قبيلة مطير وفي الحرب العالمية الأولى آثر جدي لأمي عوض المطيري أن يجنب زوجته وأولاده وبناته مسائل السلب والنهب أثناء الحرب فأراد أن ينقلهم إلى مكان آمن، فتوجه بهم إلى المدينة المنورة، وعاد إلى باديته لرعي «حلاله»، ومع حصار الشريف الحسين ملك الحجاز آنذاك للمدينة المنورة، أعلم حاكم المدينة العسكري التركي ــ فخري ــ أهل المدينة بأنه لا يستطيع أن يؤمن لهم الإعاشة وأن عليهم الخروج منها لأن المواد التموينية لا تكفي إلا للجيش فقط، فخرج زوج والدتي بزوجته مشيا على الأقدام، إلى أن وصلوا إلى مقر جيش الشريف والذي بدوره أعانهم وساعدهم وأوصلهم إلى ينبع ومن ينبع ركبوا الباخرة إلى جدة ومن جدة وصلوا إلى مكة المكرمة، حيث بقيت بعيدة عن أهلها الذين لم يعلموا وجهتها.

• وكيف كان تعامل ابن عمك معك بعد وفاة والدك؟
ــ كان تعاملا أبويا حانيا وأكرم الله ابن عمي هذا بصديق ساعده على كفالتي ورعايتي فكان ابن عمي يتولى السكن والنفقة والتوجيه والتربية، وصديقه هذا يتولى دفع مصاريف الجيب والمدرسة والملابس، لأنه كان عقيما فرغب أن يساهم في تربيتي دون أن يخبر أحدا بذلك، ولازلت مدينا لهما ومعترفا بفضلهما علي ــ رحمهما الله ــ.

• كيف كانت الأحوال المعيشية آنذاك؟
ــ خلافا لضيق ذات اليد، كان أهل مكة يعيشون كعائلة واحدة يحكمها التعاطف وسمو الأخلاق والاحترام فكان إذا غاب أحد يسارع أبناء الحارة لتفقده، وكانت الشوارع والمنازل بدائية، ومن شدة تعاطف الناس مع بعضهم، كانوا يسمحون للجار بأن يبني فوق منزل جاره.

• كيف كان مشوارك الدراسي؟
ــ كما هي عادة أبناء ذلك الجيل، بدأت الدراسة في الكتاتيب، وتحديدا في كتاب الشيخ عبدالحي غندورة ــ رحمه الله ــ في مكة المكرمة، وكان يحفظنا القرآن الكريم، ثم التحقت بمدرسة حكومية هي المدرسة العزيزية الابتدائية في حارة الشامية شمال الحرم المكي، وكانت الدراسة في الثلاث سنوات الأولى تسمى بـ«التحضيرية» ينتقل الطالب بعدها إلى المرحلة الابتدائية في الثلاث سنوات الأخرى التي تلي التحضيرية، وتناوب على إدارة المدرسة في الفترة التي كنت أدرس فيها كل من الشيخ محمود يغمور وكان رجلا صالحا حازما ثم الأستاذ عبدالله الساسي ثم الأستاذ السيد علوي شطا، ومن الأساتذة الشيخ حسن الأهدل الذي أصبح قاضيا فيما بعد في المحكمة المستعجلة الأولى، والأستاذ علي جعفر وصالح كاشف والأستاذ الشيخ عباس أشعري، وكان يعمل لنا دروس تقوية في المسجد الحرام مجانا، وكذلك الشيخ محمد نور جماوي والأستاذ محمد علي يماني وكان يدرسنا مادة القرآن الكريم وهو عم معالي الشيخ أحمد زكي يماني.

وبعد المرحلة الابتدائية انتقلت إلى مدرسة تحضير البعثات «ثانوية الملك عبدالعزيز حاليا» وهي الثانوية الوحيدة على مستوى المملكة، وكانت تضم جميع أبناء المملكة الذين يرغبون في دراسة هذه المرحلة، فكان الطلاب الذين يدرسون في هذه المدرسة من خارج مكة يبقون في القسم الداخلي في المدرسة، حيث ينامون وتقدم لهم الوجبات الثلاث.

• من تذكر من زملاء الدراسة؟
ــ أذكر معالي الأستاذ عمر عبدالقادر فقيه الذي كان وزير دولة وعضو مجلس الوزراء ورئيسا لديوان المراقبة العامة ووكيلا لوزارة التجارة، والذي تربطني به وبإخوانه الشيخ عبدالرحمن فقيه والأديب محمد عبدالقادر فقيه، صداقة قوية وما زلنا نتزاور في المناسبات، ومما يجدر ذكره أنني كنت وقت وفاة الأديب محمد عبدالقادر فقيه خارج المملكة وفور علمي بوفاته بعد عودتي من السفر اتصلت بأبنائه معالي الوزير عادل فقيه والدكتور عدنان والمهندس أيمن لكي آتي لمنزلهم، لأن أيام العزاء كانت قد انقضت ولكن معالي الوزير عادل وإخوانه وفاء منهم واحتراما لعلاقتي بوالدهم، أبوا إلا أن يأتوا بأنفسهم إلى مكتبي ليعزونني في وفاة والدهم، وكانت هذه لفتة بارعة أشكرهم عليها، وأذكر معالي الشيخ كمال أدهم الذي كان مستشارا للملك فيصل ــ رحمه الله ــ ومن زملائي أيضا الدكتور أحمد داغستاني الذي أسس مستشفى الداغستاني في جدة والدكتور عبدالعزيز كردي ــ رحمه الله ــ وأخيه الدكتور عبداللطيف كردي.

• هل كنت على علاقة ببعضهم؟
ــ بالطبع وأذكر من هؤلاء الزملاء عبدالله أركوبي وشمس الدين الفاسي ومعالي الشيخ عبدالعزيز مدرس الذي تولى بعد ذلك رئاسة جمعية الهلال الأحمر السعودي، وعندما كنت أدرس في أول هذه المرحلة كان يدرس في آخر المرحلة أحمد شطا الذي أصبح وزيرا للتجارة وغيره وكانت هذه المدرسة تحضر طلابها في القسمين العلمي والأدبي لابتعاثهم لمواصلة تعليمهم الجامعي في مصر، وكانت البعثات آنذاك محصورة في هذا البلد، وتخرج منها أطباء ومهندسون ومدرسون وغيرهم وكان يدرسنا في هذه المدرسة الأستاذ عبدالله عبدالجبار ومعالي الشيخ إبراهيم السويل وزير الخارجية السابق والأستاذ حسين فطاني الذي أصبح سفيرا للمملكة فيما بعد والأستاذ عمر عبدالجبار والأستاذ محمد بخش وهو والد معالي الفريق محمود بخش، وكان معي الأخ سالم سنبل الذي كان مديرا للمراسم الملكية والأخ عبدالله أركوبي وهو الآن طبيب وعبدالعزيز أركوبي وصالح أبو العلا، وللأسف لم أكمل المرحلة الثانوية ولم أتخرج منها.

• لماذا؟
ــ كنت وحيد أمي بعد رحيل والدي ولأنها لم تجد أسرتها، شكل ذلك لها هاجسا جعلها ترفض أن أكمل تعليمي، فقد كانت تشعر بالغربة وأن ليس لها أحد غيري بعد الله، وعندما أخبرتها بأنني سوف أذهب إلى مصر بعد أن أتخرج من مدرسة تحضير البعثات، أسوة بزملائي، بكت بحرقة ورفعت يديها للسماء ودعت قائلة: «يارب لا تبلغه النجاح» كي أبقى عندها ولا أسافر وكانت تدعو بإلحاح ليل نهار، وسمعتها تدعو قائلة: «يا رب هذا ابني ليس لي أحد غيره بعد الله، فقدت الأب والأم والإخوان، يا رب لا تمكنه النجاح» وكنت كلما حاولت أن أقنعها أن تدعو لي بالنجاح، ترفض لأنها لاتريدني أن ابتعد عنها وتخشى أن أصاب بمكروه هناك فتبقى هي وحيدة لا أهل ولا ولد واستمرت على هذا الحال إلى أن استجاب الله دعاءها.

• ماذا حدث بالضبط؟
ــ تعرضت لظرف قاس فقد توفي صديق ابن عمي في حادث سيارة والذي كان يساعده في الإنفاق علي، كما توفي زوج والدتي، وكنت وقتها في الصف الرابع الثانوي لأن المرحلة الثانوية على أيامنا كانت خمس سنوات، وبسبب هذه الظروف أكملت في مادتين لأنني كنت دائما أفكر فيمن يعول والدتي، وبعدها قررت أن اترك الدراسة وأخرج إلى ميدان العمل. والحمد لله على كل شيء صحيح أنني لم أواصل دراستي الجامعية لكني كسبت رضا والدتي وحقق أبنائي وبناتي ما لم استطع تحقيقه في مجال التعليم فبعضهم يحمل الماجستير وبعضهم الدكتوراه واعتبر ما نلته من خير فيما بعد هو بسبب إرضائي لوالدتي.

• هل وجدت عملا في هذه السن؟
ــ ساعدني في الحصول على العمل الأستاذان أحمد وصالح محمد جمال ـ رحمهما الله ــ وكانا على اطلاع بظروفي، ففي أحد الأيام جاءني الأخ صالح جمال وكان وقتها يعمل مأمورا لمستودع الأمن العام، يخبرني بأن هناك وظيفة في الأمن العام في مكة، وأن شرط التعيين عليها هو الحصول على شهادة الابتدائية فقط ثم مقابلة يتبعها اختبار، فكتبت معروضا وذهبت به إلى مدير الأمن العام أطلب فيه التعيين على هذه الوظيفة، فسألني سكرتير مدير الأمن العام واسمه محسن حواري قائلا: ما هي الشهادات التي تؤهلك لهذه الوظيفة؟ قلت: مكمل في الصف الرابع الثانوي، فطلب مني شهادة من مدير مدرسة تحضير البعثات تثبت أنني مكمل، فذهبت للمدرسة وأحضرت الشهادة فأخذها مني، وقدمها لمدير الأمن العام حينها مهدي الصلح الذي كان في إجازة وكان يقوم بعمله السيد طلعت وفا، وعندما دخلنا عليه شرح له بأنني أحمل شهادة السنة الرابعة الثانوية، فقال له «هذا لا يحتاج إلى اختبار عينه مباشرة»، وعينت على وظيفة كاتب صادر ووارد ومأمور أرشيف، براتب 130 ريالا، وكانت هذه الوظيفة بشرى سارة لي جعلتني أبحث عن منزل لوالدتي في حي أجياد في مكة، وحدث أمر غريب حيث استأجرت هذا البيت بمبلغ سنوي قدره 500 ريال، وحينما ذهبت لصاحب المنزل واسمه الشيخ أحمد حافظ لأسلمه مبلغ الإيجار قال لي: «مبروك ما دخل هذا المنزل مستأجر إلا وخرج منه إلى منزل ملك». فاستغربت من كلامه، لأنني بالكاد أدفع الإيجار، ولكن الله أكرمني بأن تحقق ما قال، وأعطاني بدلا من المنزل الواحد منازل وأغدق علي الخير الوفير.

• كيف سارت الأمور بعد ذلك؟
ــ من كرم الله علي أن يكون رئيسي في القسم العدلي وهو ما يعرف الآن بقسم المباحث الجنائية، الشيخ صالح محمد باخطمة وكان عسكريا وشاعرا مجيدا، وسار ابنه محمد والذي أصبح سفيرا في وزارة الخارجية على نهجه في مجال الشعر، وكان الشيخ صالح تقيا نزيها، بل كان اسما على مسمى فهو يعمل أكثر من وقت الدوام وكانت لديه قضايا خطرة جدا كالقتل والسرقة والمسكرات والمخدرات والمخالفات الشرعية، ومجموعة من الموظفين، وعندما وجدني قد أجدت في كتابة الصادر والوارد، أسند إلي دفتر الكفالات والتعهدات إلى جانب عملي، ثم أخذ بعد ذلك يدربني على التحقيق في بعض القضايا الخفيفة كقضايا الدين، ورأى أن أساهم في قضايا التحقيق ثم سلم عملي لموظف آخر، وبدأ يسلمني قضايا التحقيق وتدرجت إلى أن أصبحت أحقق في قضايا القتل والسرقات، وغيرها من القضايا الحساسة والخطرة إلى أن عينت محققا جنائيا وأكسبني هذا العمل شهرة في أوساط مكة، ثم أصبحت رئيسا لقسم القلم الإداري بعد أن تم ترقيتي، فكان هذا أول عمل رئاسي لي فأصبح لدي موظفون للصادر وللوارد وللأرشيف ومأمور للأقساط مهمته تقسيط المبلغ على المعسر الذي عليه دين للآخرين بعد أن تقرر المحكمة المبلغ والمدة ليسلم لصاحب الحق، ومأمور للسجن وكنت أرأس كل هذه المجموعة.

• كيف انتقلت لوزارة الداخلية؟
ــ في تلك الأيام كانت هناك ثلاث وزارات فقط هي وزارة المالية والخارجية والدفاع، وعندما صدر مرسوم ملكي بتأسيس وزارة للداخلية ووزارة للصحة، أسندت الوزارتان لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل فوجدتها فرصة أن انتقل لوزارة الداخلية، خاصة أن جميع أعمال الأمن العام ستكون مرتبطة بالداخلية، فتقدمت إلى وزارة الداخلية بتشجيع من الصديق الأستاذ أحمد محمد جمال وكانت الداخلية في بداية تأسيسها مرجعا للتعليم وللبلديات وللأوقاف وللأمن العام والبريد وكأنها أم الوزارات، فأخذت بنصيحته وذهبت للشيخ محمود أبار ــ رحمه الله ــ رئيس ديوان وزارة الداخلية، وأذكر أنه قال لي إن هذا الرجل لا يحتاج للواسطة فهو بحكم خبرته وفراسته يدرس الشخص فإذا وجد فيه الكفاءة يعينه أو ينقله، وعندما أردت الدخول عليه وجهني حارسه العم أحمد عدني ــ رحمه الله ــ بمقابلة مدير الأوراق المرحوم السيد أمين رضوان، وعندها هممت بالعودة أخذ أحمد جمال بيدي وأعادني، وقال له: يا عم أحمد مكن السيد عبدالله بالدخول، فاستجاب وفتح لي الباب ودخلت عليه، وكان ذا هيبة، وبعد أن استفسر مني وعن طلبي، شرحت له أنني صاحب اختصاص في الأمن العام، فقال لي: وهل الأمن العام يوافق على نقلك للداخلية، قلت: لا لن يوافق، قال: إذن ما العمل؟ قلت: أقترح أن يصدر أمر وزير الداخلية بنقلي، فجاء رده صارما: هل نخرب بيوت الناس لنصلح بيوتنا؟ قلت: إذن ما الحل؟ قال: دعني أفكر.

• وماذا كان الحل؟
ــ انتهز فرصة حضور مدير الأمن العام اللواء علي جميل لوزارة الداخلية وكان يحضر يوميا لمقابلة الوزير فطلب منه نقلي باعتبار أنهم في مرحلة التأسيس وعندما قابلت الشيخ محمود أبار بادرني بالسؤال: هل بلغك الأمن العام؟ قلت: أبدا لم يبلغني شيئا، قال: اذهب وراجع مدير الأمن العام وقل له أن الداخلية طلبتني لأننا أبلغناه، فإذا بالأستاذ حسين عرب ــ رحمه الله ــ يتصل بي هاتفيا وكان وقتها سكرتيرا لوزارة الداخلية، ويطلب مني أن أفاتح مدير الأمن العام بالأمر، وكنت في غاية الحرج لمعرفتي بكرم اللواء علي وأخلاقه وفضله ومحبته وثقته بي فسلمت عليه، وأعلمته بأمر الاتصال، فقال لي: يا سيد عبدالله باشر عملك لم أكن لأقف حجر عثرة في طريقك ومستقبلك.
وتعينت مساعدا ثانيا لإدارة شؤون الأجانب في الجوازات والجنسية في وزارة الداخلية، براتب 385 ريالا وكانت مفاجأة وفرحة كبيرة لي حيث كان راتبي في الأمن العام 290 ريالا.

• هل كنت ضابطا أم مدنيا إبان عملك في الأمن العام؟
ــ بقيت مدنيا ولهذا قصة طريفة: فنظرا لقلة الضباط في الأمن العام آنذاك استصدر مدير الأمن العام أمرا بعمل دورة عسكرية للمدنيين البارزين في الأمن العام، في وزارة الدفاع في الطائف مدتها ستة أشهر، ومن ينجح فيها يحول إلى ضابط ويستلم راتب الرتبة، وكان راتبي في ذلك الوقت يعادل راتب النقيب لو التحقت بهذه الدورة لأصبحت نقيبا لكني اخترت المدنية، أما بقية زملائي فقد حصلوا على هذه الدورة، وذات يوم فوجئت بمدير الأمن العام يطلبني ويقول لي اكتب سندا على نفسك باستلام بدلة عسكرية من المستودع، قلت له لكنني لست عسكريا فلماذا أستلم البدلة؟

• ما قصة فصل الجوازات عن الأمن العام؟
ــ كان الأمن العام مقسما إلى قسمين وكانت الجوازات جزءا من هذا التقسيم، وكان في الأمن العام وكيل للأمن العام للشؤون الإدارية ويرأسه طلعت وفا، ووكيل للأمن العام للجوازات والمباحث والجنسية ويرأسه عمر شمس الذي أصبح فيما بعد رئيسا للاستخبارات العامة، وكان هناك توجه لدمج الشرطة مع الجوازات وتمت الموافقة عليه، وفي هذا الوقت تم تعيين صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز وزيرا للداخلية، والتقيت مع رئيس المراسم الملكية في الديوان الملكي عبدالمنعم عقيل الذي أصبح وكيلا لوزارة الداخلية وبحكم معرفتي به زرته في مكتبه يرحمه الله وقلت له يا أستاذ عبدالمنعم أنت أول شخص تخرج من كلية البوليس في مصر ورجل تفهم النظام فكيف تسمح بهذا التداخل، هل يعقل أن نجمع شخصا يبحث عن تابعية أو إقامة مع سارق أو مجرم في مكان واحد، واقتنع ــ يرحمه الله ــ بكلامي، وبعد فترة وتحديدا في عام 1381هـ صدر الأمر بأن تشكل لجنة من مدير عام وزارة الداخلية غالب توفيق رئيسا وعضوية عبدالعزيز أولياء وإبراهيم برزنجي وكنت مع هذه اللجنة، وكلفني الأستاذ عبدالمنعم بأن أشرح وجهة نظري لهم، وعلى مدى خمسة أيام كنا نجتمع في منزل غالب توفيق وأحضر من مكة يوميا مع أولياء وبعد ذلك رفعت اللجنة توصية بأن تستقل الجوازات عن الأمن العام وتنشأ لها مديرية على غرار الأمن العام. وطلب مني عبدالمنعم عقيل أن نجتمع معا بعد الدوام لنتباحث في وضع النظام، وكان متحمسا جدا للفكرة، وبدوره أقنع وزير الداخلية الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز بفصل الجوازات، فرفع سموه الأمر لمجلس الوزراء وصدر قراره بفصل الجوازات لكن بقية ميزانيتها مع الأمن العام، وكنت الوحيد على ملاك وزارة الداخلية.

• متى تم تعيينك مديرا للجوازات والجنسية؟
ــ كلف وزير الداخلية الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز، رئيس بلدية الطائف عبدالمحسن المهنا بشغل منصب مدير عام الجوازات لمدة ثلاثة أشهر معارا من بلدية الطائف، ثم تم التجديد له ثلاثة أشهر أخرى قبل أن يعود لعمله الأصلي، وأثناء ذلك حدث تشكيل وزاري أصبح فيه الأمير فيصل بن تركي وزيرا للداخلية، ورفع السيد عبدالمنعم عقيل تقريرا عني لوزير الداخلية، رشحني فيه لمنصب مدير عام الجوازات والجنسية، وتمت الموافقة عليه، فصدر الأمر السامي الكريم بتعييني أول مدير عام للجوازات والجنسية في المملكة يوم 1/7/1382هـ وكان سمو الأمير فيصل بن تركي قد تقدم بترشيحي لمجلس الوزراء.

• ما هو أول عمل لك بعد توليك هذا المنصب؟
ــ كانت جميع الجوازات في مبان مستأجرة فأسست مبنى لجوازات الرياض، ومبنى لجوازات جدة ما يزالان حتى الآن، وقد حولت عددا من مباني الجوازات المستأجرة إلى مبان مستقلة في عدد كبير من مدن المملكة، وساهمت في تعليم عدد كبير من الموظفين في الجوازات اللغة الإنجليزية على أيدي أساتذة من بريطانيا، ومن الأعمال التي اعتز بها أنني استطعت أن أدخل الكومبيوتر في الجوازات واستعنت بخبراء من لبنان لتعليم الموظفين طريقة استخدامه.

• كيف كانت طبيعة العمل في الجوازات؟
ــ كانت الجوازات تقوم بعمل الجوازات حاليا والأحوال المدنية معا فتصدر الجوازات والإقامة ومنح تأشيرات الخروج والعودة، ووثائق الهوية.

• بعد أن أصبح خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ــ رحمه الله ــ وزيرا للداخلية.. كيف كان عملك معه؟
ــ كان ــ يرحمه الله ــ حريصا على العمل فكنت اجتمع به في كثير من الأحيان عدة مرات في اليوم الواحد، وتميز بحلمه وسعة صدره ورأيه السديد وقدرته الفائقة على متابعة مشاكل المراجعين وحلها.

• على من كنت تعتمد في عملك؟
ــ كنت أعتمد كثيرا على عبدالقادر كمال مدير جوازات المطار ويوسف فاضل مدير جوازات ميناء جدة.

• ما الموقف الذي مازلت تذكره أثناء عملك في الجوازات؟
ــ في أحد الأيام حينما كنت في الرياض دخل علي أحد المراجعين وعندما شاهدني ارتبك كثيرا وتلعثم وأخذ يعتذر مني، فطلبت منه أن يهدئ من روعه، ولم يكن سوى الرجل الذي أشتري منه أغراضي بنفسي في السوبر ماركت، فقال إنه يعتذر عن فظاظته معي عندما كنت أشتري منه لأنه لم يكن يعرفني!

• ماذا عن أغرب قضية مرت عليك من خلال عملك في التحقيق الجنائي؟
ــ كل القضايا التي حققت فيها من أنواع القتل والسرقة والمخالفات الشرعية مثل الزنا لكني أتذكر من هذه القصص قصة قتل وقعت في وادي فاطمة وكانت القضية معقدة حيث قتل شخص شخصا آخر في خلاف على بئر ماء، هذا يقول إن البئر موضع الخلاف في أرضه وذاك ينفي، وعندما احتد النقاش قتل أحدهما الآخر وكان القاتل هو كبير القوم، وعندما عرضت علي القضية اقترحت أن أذهب إلى هناك ويكون برفقتي قاض من المحكمة ومندوب من المقام السامي ورفع الاقتراح من مدير الأمن العام وجاءت الموافقة عليه. كان مندوب الشرع فضيلة الشيخ أحمد هرساني وكان هو قاضي المحكمة المستعجلة الثانية في مكة، وكان مندوب المقام السامي هو الشيخ ناصر العبيكان فذهبنا بالـ«ونيت» إلى وادي فاطمة وهناك اكتشفنا أن الحادث وقع في وادي «مدركة» ولما كانت مدركة تقع على الجبل، تساءلنا: كيف نصعد إليها؟ قالوا لنا لا بد أن تركبوا الجمال للوصول إلى هناك، فاستأجرنا ثلاثة جمال فركب الشيخ القاضي على جمل والشيخ ناصر العبيكان على جمل وأنا على الجمل الثالث، وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أركب فيها الجمل فصعدنا الجبل على الجمال وأنا ممسك به بكل قوتي خوفا من السقوط إلى أن وصلنا إلى وادي مدركة وكان معنا السجين وبعض الجنود فوقفنا على مكان الحادث ورأينا البئر محل النزاع ثم عدنا أدراجنا إلى وادي فاطمة وأذكر أننا اقترحنا بأنه يجب أن يكون في مدركة مركز حكومي وأن يكون فيها قاض ومدير شرطة وأمير لأن مدركة عبارة عن مجموعة من القرى في الجبال. والغريب أنها كانت تابعة لأمير المضيق فوافق على اقتراحنا وتم تعيين أحد الضباط مديرا لشرطة مدركة وكان اسمه أسعد خليفة، وعندما باشر، قابلني ذات مرة مداعبا وقال لي: جزاك الله خيرا نقلتني إلى مدركة فلولا اقتراحك لما ذهبت إلى هذا المكان (يقصد أنني السبب وراء نقله إلى هذه المنطقة النائية).

• وكيف انتهت القضية؟
ــ أحيلت للمحكمة وحكم على المتهم بالسجن لأن الأدلة كانت قوية ضده ولكن مباشرة القتل لم تثبت إلا بشاهدين أو اعترافه فلم يتوفر لدينا الشهود ولم يتوفر لدينا الاعتراف ولكن توفرت لدينا الأدلة بأنه هدد المقتول فالذي ثبت لدينا هو شهادة الشهود بالتهديد، وقد تركت الأمن العام والرجل لم يعترف بقتل الضحية.

• من الذي اختارك رئيسا لبلدية جدة؟
ــ رشحني خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ــ رحمه الله ــ عندما كان وزيرا للداخلية وهو الذي اختارني لهذا المنصب، فقد كانت البلديات تتبع لوزارة الداخلية وكان هذا المنصب مكافأة لي على جهودي في تطوير قطاع الجوازات.

• ما هي أول مهمة قمت بها؟
ــ كانت شوارع جدة تعج بالفوضى والمناظر غير الحضارية فنقل البضائع في الغالب يتم بالعربات التي تجرها الحمير (الكارو) وكذلك عربات الماء (البراميل)، إضافة لمشكلة تراكم القمائم والمخلفات، والكلاب المنتشرة بشكل كبير، ومن أجل ذلك أوقفنا هذه العربات واستبدلناها بالدبابات ولجأنا لحرق القمائم، وأنشأنا قسما للنظافة الليلية وتم القضاء على ظاهرة الكلاب المنتشرة وقتها، وتم استبدال الأكشاك الخشبية بأكشاك الألمونيوم، أما بالنسبة للمشاريع فبدأنا ذلك الوقت بمشروع مجاري جدة ومد خطوط التصريف إلى جنوبها، حيث تم شق قناتين لدرء أخطار السيول القادمة من خارج جدة تمتد الأولى من شرق المدينة إلى غربها من أمام سوق جدة الدولي حاليا، والثانية من الشرق إلى الجنوب إلى البحر.

• ماذا عن الأعمال الأخرى؟
ــ تزامن عملي مع استضافة جدة الاجتماع الأول لوزراء خارجية الدول الإسلامية في عهد الملك فيصل ــ رحمه الله ــ فكان لزاما علينا القيام بأعمال كبيرة لتنفيذ الخدمات والمرافق المحيطة بقصر الحمراء، وكذلك عملنا على إنشاء منطقة الحمراء، ونزع ملكيات أراضي شرق ميدان البيعة وأمام فندق البيعة وحول بحيرة الأربعين جنوب محطة سامي كتبي وأمام فندق جدة بالاس، بهدف إنشاء مبنى للبلدية، وتم في ذلك الوقت إنشاء حديقة الشعراء شمال ميدان البيعة وتوسعة شارع أبها ليربط الكندرة بشارع المطار بمعنى أننا ربطنا الشرق بالغرب وشارع السبيل بعرض 30 مترا، وتوسعة شارع جنوب المطار القديم ليصبح باتجاهين وتوسعة شارع فلسطين، من ناحية السفارة الأمريكية وتمت إزالة المباني العشوائية هناك، وكذلك المنتشرة في كيلو3 و4. وفتحنا حديقة شارع خزام، وبوجه عام كانت عملية تطوير المدينة تسير على قدم وساق وبمتابعة من ولاة الأمر حتى شملت في الفترة التي كنت فيها أكثر من 23 حيا وشارعا. وخططنا لإنشاء أحياء خارج النطاق العمراني المحدود حينها ومنها حي الروضة شمال غرب جدة، وحي الطيارين في الشمال، وسعينا للمحافظة على تراث جدة ومبانيها عبر استقدام عدد من المهندسين الخبراء.

• ما هي المشاكل التي واجهتكم في تلك الفترة؟
ــ كانت «الأتاريك» هي التي تضيء بعض الشوارع وتطفأ عند منتصف الليل، وعانينا من تعديات بعض الموطنين على الأراضي بصورة مقلقة، فقد كانوا ينتهزون الفترة المسائية ويأتون بقلابات مليئة بالأسمنت وأخرى محملة بالطوب والشبابيك والأبواب الخشبية، وبعمال ومجموعات كبيرة جدا من الأهالي، ويبدأون العمل من بعد المغرب، حتى الفجر حتى يكتمل المنزل فيأتوا بالعائلة والأطفال لإسكانهم فيه، وحينما يأتي مراقب البلدية لا يجد سوى النساء والأطفال!

• كم كانت ميزانية البلدية حينها؟
ــ خمسة ملايين ريال تقريبا وعدد الموظفين حوالى 170 بما فيهم عمال النظافة، وكنا نشرف على نصف جدة حاليا، ولم تكن الميزانية تكفي وقد استعنت بوزير الداخلية حينها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ــ رحمه الله ــ، ودعمني بمبلغ إضافي.

• على المستوى الشخصي.. كيف كان التحول؟
ــ هناك تحولان في حياتي، الأول: زواجي من أم أولادي، والثاني بعد تقاعدي فأنا لا أحب الخمول ولا استطيع الجلوس في البيت طويلا، وقبل أن اتقاعد قررت أن أخذ إجازة طويلة ووجدت الجلوس في البيت لا يناسبني، فلذا فكرت في عمل يشغل وقتي والحمد لله أسست شركة طبية تختص باستيراد الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية والمكملات الغذائية، وبيعها بالجملة، وشركة أخرى تختص في استيراد العطور وأدوات التجميل وبيعها بالجملة.

• في مجال المال والأعمال من هم أصدقاؤك؟
ــ علاقتي وطيدة بالكثير من رجال الأعمال، وبشكل خاص آل بحراوي وإبراهيم أفندي ويوسف أديب ويوسف جمجوم وعبد الخالق بخش.

المصدر : عكاظ 6/12/1431هـ - حوار : محسن المغربي .