حي الطنبداوي.. قراءة لغوية تاريخية
يقع حي الطنبداوي جنوب غرب المسجد الحرام، يحده من الشمال حي جرول، ومن الشرق سلسلة الجبال الممتدة من الشبيكة شمالًا حتى قرب قوز المكاسة جنوبًا، ويسمى أعلاها جبل عمر، وأسفلها جبل الشراشف أو ما كان يعرف قديمًا بثبير الزنج، ولبعض أجزائها تسميات أخرى، ويحده من الغرب شارع المنصور، وينتهي في الجنوب عند التقاء شارع منصور بشارع إبراهيم الخليل، وهو أيضًا موضع التقاء وادي طوى بوادي إبراهيم.
وتسمية الحي لافتة للنظر، بل مثيرة للاستغراب؛ فهو اسم أعجمي غريب، وهذه الغرابة جعلت الناس ينطقونه بطرق شتى مثل الطنبداوي، الطندباوي، والطنضباوي، والتنضباوي، وامتد هذا الاضطراب في طريقة نطق الاسم إلى أمانة العاصمة المقدسة؛ فبعض اللوحات التي وضعتها داخل الحي تحمل اسم الطندباوي، وبعضها يحمل اسم الطنضباوي، ولكن الاسم الأكثر شيوعًا، خاصة عند كبار السن من أبناء الحي، هو الطنبداوي، وهو الاسم الذي وجدته يتردد في صحيفة أم القرى، وأقدم ذكر وجدته في كتب التاريخ لاسم هذا الموضع من مكة، ما ذكره العصامي في سمط النجوم العوالي أثناء حديثه عن أحداث حج عام 817 هـ، فذكر أن القواد هجموا على المسجد الحرام طلبًا لأمير الحج، الذي قبض على شخص منهم وامتنع عن إطلاقه، فتقاتل القواد والأتراك فانهزم القواد...” واجتمع القواد في أسفل مكة بمحل يسمى الطنبداوي”(1)، وذكره كذلك بهذا الاسم النجم عمر بن فهد أثناء حديثه عن مطر غزير هطل على مكة عام 825هـ إذ قال: “... وما مات فيه من أحد فيما علمناه، ولكن مات في هذه الليلة أربعة نفر بمكان يقال له الطنبداوي بأسفل مكة بصاعقة وقعت عليهم هناك”(2). وذكره أيضًا في أحداث سنة 851 فقال: “وخرج [يقصد السيد بركات] مسافرًا إلى القاهرة وأقام بالطنبداوي إلى عصر يوم الثلاثاء”(3)، وذكره السنجاري في كتابه منائح الكرم في عدة مواضع منها ما جاء في حوادث سنة 1115هـ؛ حيث ذكر أن الشريف سعد “نزل على ولده السيد مساعد بالطنبداوي”(4). ولا شك أن المقصود هنا اسم المحل أي الموضع؛ فهو لم يصبح حيًّا مأهولًا إلا في فترة متأخرة عن هذا التاريخ، لكننا نخلص مما تقدم أن الاسم الصحيح للحي هو الطنبداوي، وأن الأسماء الأخرى هي من تحريفات العوام.
لكن يبقى السؤال من أين جاء هذا الاسم؟ حاول البعض تعليل التسمية بطريقة معتسفة؛ فذكروا أن المنطقة كان يكثر فيها شجر التنضب، فسميت التنضباوي، وهذا التعليل ينطوي على عدد من المغالطات، ولا يثبت عند التمحيص والتدقيق، ويمكن دحضه بما يلي: أن الاسم الصحيح الأقدم ذكرًا والمثبت في النصوص والمرويات الموثقة المذكورة سابقًا هو الطنبداوي، وليس للتنضباوي ذكر إلا في الخيال الشعبي لدى بعض العوام، وقد سألت كثيرًا من المعمرين من أبناء الحي عن حقيقة وجود شجر التنضب في هذا الموضع، فأكدوا عدم تواجده إطلاقًا.
ولو افترضنا جدلًا وجود شجر التنضب في هذه الأرض، وأرادوا تسميتها به، فإن التسمية الصحيحة لها لا يمكن أن تكون التنضباوي؛ فالعرب إذا أرادت أن تسمّي الأرض بما ينبت فيها من نبات، فإنها تقول ذات أو ذا كذا من النبات، مثل ذات الحنظل وذات السلم، وفي الزمن المتأخر استبدلوا ذات بأم؛ فيقولون أم السلم وأم الكتاد وأم الحمض، أما لو أرادوا نسبة الأرض إلى النبات أو إلى السكان، فلا بد أن تكون اللفظة مؤنثة؛ لأن الأرض مؤنثة، فنراهم يقولون المريخية أو بالجمع المريخيات، نسبة إلى شجر المرخ، وكان يطلق هذا الاسم على ما يسمى حاليًا العوالي، ونراهم يقولون اللحيانية والحربية نسبة إلى بني لحيان وبني حرب، وبناء على ذلك فلو أرادوا تسمية الأرض أو نسبتها إلى شجر التنضب، لقالوا ذات التنضب أو أم التنضب أو التنضبية. ويجوز أن تسمى بذي التنضب إن أرادوا الحي أو الربع أو الموضع، وقد انجذب لتسمية العوام الخاطئة المبنية على الخيال والاعتساف عدد من المؤرخين المشهورين، وساقوها دون تروٍ، عفا الله عنّا وعنهم.
إذن ما التعليل الصحيح للاسم؟ لقد تبين لي بعد التأمل والنظر أن الحي سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى بئر الطنبداوي، وهي بئر قديمة معروفة بهذا الاسم قبل وجود الحي، ذكرها الفاسي المتوفى سنة 832هـ في كتابه “شفاء الغرام” قائلًا: “وبأسفل مكة أيضًا بئر يقال لها الطنبداوية”(5)، والفاسي انتهى من تأليف كتابه ومراجعته سنة 819 هـ، كما يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، وقال المحقق في الهامش: “وبها سمي الطنبداوي وهو حي من أحياء مكة”، وهي التفاتة ذكية من المحقق الذي أحسب أن له السبق في هذه المسألة، لكن يجب التنبيه إلى أن الحي لم يكن موجودًا آنذاك، بل كانت المنطقة عبارة عن مزارع وممادر ومراع خارج البلد، وبعد مائة عام تقريبًا من كلام الفاسي المتقدم يذكر هذه البئر أيضًا عبدالعزيز بن النجم في “بلوغ القرى”، ففي أثناء حديثه عن أحداث سنة 909هـ يذكر أن الأشراف من بني نمي عندما تحالفوا وعزموا على مواجهة مالك بن رومي الحربي عادوا من وادي الأبيار “إلى أن نزلوا على بئر الطندباوي خارج مكة بأودان قريش...”(6)، ويبدو أن الموضع المجاور للبئر قد حمل اسمها منذ ذلك الزمن كما مر في النقول المتقدمة.
ولم أجد ما يشير إلى صاحب البئر المنسوبة إليه، إلا أنني وجدت عددًا من الشخصيات ممن يحملون هذا اللقب، ذكرتهم كتب التاريخ باقتضاب، ولم تمدنا بتفاصيل عن حياتهم تعين على تحديد صاحب البئر؛ منهم: محمد بن عثمان بن أبي بكر الملقب بالشمس ويعرف بالطنبداوي، ولد بطنبدى بمصر، وانتقل إلى مكة، وحصل له بها أولاد وعقار، وكان بزازًا، توفي سنة 793هـ. (7)
ونورالدين بن الجلال الطنبذي، كان في عام 809هـ قاضيًا بمصر، ووكيلًا لشريف مكه حسن بن عجلان بن رميثة بمصر. (8)
وقد حاولت حصر أسمائهم مما أتيح لي من مراجع التاريخ المكي فبلغوا بضعة عشر اسمًا كلهم من المصريين ومن نزلاء مكّة عدا اثنين الأول: أحمد بن الطيب بن محمد بن عبدالعزيز البكري الطنبداوي، ولد بزبيد باليمن ومات بها عام 948هـ، فقيه زبيد ومفتيها في زمانه، درس في مكة (9)، ولا أعرف سببًا لنسبته هذه، هل هي مجرد لقب لُقّب به لمناسبة ما أم أن أحد آبائه هاجر إلى اليمن من مصر أو مكة؟
الثاني: منصور بن نصر الطنبذي، كان حيًّا سنة 208هـ ونسبته إلى طمبذة في إقليم المحمدية بتونس كما صرح ياقوت. (10) أما البقية فنسبتهم إلى قرية طمبدا وهي قرية مصرية قديمة تردد ذكرها في كتاب فتوح الشام المنسوب زورًا إلى الواقدي، وذكرها ياقوت باسم طمبذة وقال عنها: “قرية من أعمال البهنسا من صعيد مصر” (11)، تقع الآن بمركز مغاغة بمحافظة المنيا (12)، ومازال بعض المصريين المعاصرين ينتسبون إليها منهم اللواء سامي سعد الطنبداوي نائب مدير أمن محافظة الغربية، وغيره كثير.
أما زمن حفر البئر فمن الصعب تحديده الآن، إلا أنه لن يقل عن النصف الثاني للقرن الثامن؛ فنحن نراها في أوائل القرن التاسع معروفة بل أعطت اسمها لما حولها.
وموقع البئر بالتحديد على الضفة اليسرى لوادي طوى للمنحدر معه قادمًا من جرول، بجوار مسجد الطبيشي، ومازال بعض المعمرين من أبناء الحي يتذكرونها ويذكرونها بنفس الاسم الطنبداوي، ويذكرون أنها سميت فترة من الزمن ببئر راضي لأن شخصًا اسمه راضي بن درويش المولد أنشأ هو وأخوه سالم عندها مقهى، كانت ترتص مقاعده المصنوعة من الخشب والخوص على ضفة الوادي في موضع المسجد الحالي وبين المقهى والوادي كثيب رملي (عقم). وقد طمرتها البلدية قبل ما يقرب من أربعين عامًا من الآن بحجة وقوعها وسط الشارع، ولا شك أنه سبب واهٍ غير مقنع، وقريب من المسجد الآن أربع آبار منها ثلاث داخل البيوت وواحدة في الشارع ملاصقة لمسجد الهوساوي المقابل لمخبز الجداوي، وقفت على اثنتين منها إحداهما هذه، والأخرى داخل قصر الطبيشي ووجدتهما مطويتين بالحجر وبهما ماء، والأرجح أن هذه الآبار متأخرة زمنيًا عن بئر الطنبداوي.
لكن يا ترى ما اسم هذا الموضع قبل أن يحفر به الطنبداوي بئره؟ وردت في بعض كتب السيرة والتاريخ بعض نصوص توحي بأن جزءًا من حي الطنبداوي يسمى الليط، وهو الذي دخل معه خالد بن الوليد بفرقته يوم فتح مكة، وجزءً آخر يسمى المغش وردت بعض الآثار تفيد أن النبي عليه السلام كان يخرج إليه لقضاء الحاجة (التبرز فيه). (13)
كما كان يحيى بن خالد البرمكي الوزير العباسي يملك ضياعًا في الليط والمغش، وسهّل من أجل اختصار الطريق إليها عقبة الحفائر التي كانت تسمى الحزنة. (14)، وبتأمل الموقع حاليًا أرجح أن مزارع البرمكي التي بالليط كانت تقع في موضع قصر عبدالعزيز كعكي وحوش بن لادن جنوبي مسجد بن لادن. وهناك أسماء أخرى حول هذين الاسمين، ذكرها مؤرخو مكة، لكنها تحتاج إلى تحقيق ودراسة معمقة لتحديد مواضعها من الحي.
ولابد أن أذكر أخيرًا أن منطقة البئر هذه تقع خارج حدود الحي وفق التقسيم الإداري الحالي، وليت من قاموا بإعادة التشكيل والتسمية غيروا اسم الحي، إلى محلة جرول الجنوبية أو محلة المسفلة الغربية، هذا إن لم يرغبوا في العودة إلى الأسماء القديمة المعروفة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي الأولى في نظري، ولا يعني اقتراحي هذا أنني أؤيد محو الأسماء التاريخية، بل إنني من المنادين بالمحافظة عليها وعدم فعل ذلك إلا عند الضرورة، والتاريخ مراحل متعاقبة، يمكننا الآن عند الضرورة أن نختار اسمًا ملائمًا من تلك المراحل.
ولا أدعو بهذا الاقتراح إلى تجاهل حق الرجل، الذي أسدى بلا شك إلى أهل مكة معروفًا بحفر هذه البئر، فإن كان الزمن قد محا اسمه الأول، والجهل بقيمة الآثار قد محا البئر، ورأينا تغيير اسم الحي لما تقدم، فعلينا أن نخلد اسمه بإطلاقه على أحد الشوارع المجاورة لموضع البئر؛ حتى لا يلحق بزبيدة امرأة هارون الرشيد التي أسدت إلى مكة وأهلها وزوارها معروفًا أكبر منه بإجرائها عين حنين إلى مكة، وسُمّي أحد الشوارع باسمها فترة، ثم أزيلت اللوحات فجأة دون معرفة السبب. والله الموفق.
المدينة 19/11/1431هـ ملحق الاربعاء بقلم فهد صالح الخزاعي .
0 تعليقات