معالم إسلامية (مسجد البيعة بين القديم والجديد) (1 - 4)
إن الأمم في العصر الحاضر تعتز بتاريخها الماضي، وتجدد مسيرتها حسب مقتضيات الزمن الذي تعيشه، أملا أن تلحق بركب الحضارة، ولتنال نصيبها من التقدم.
إن تاريخ السلف المشرق عامل نهوض للأجيال اللاحقة، يستفيدون منه دروسا عملية، إذا وجدت الإرادة الصادقة، ونحن أجدر بالحرص والمحافظة على كل ما يصل بالأمة إلى ميدان الرقي، والتقدم، ونحمد المولى عز وجل أن ترك لنا السلف من التراث والأعمال ما يحفز همم الشباب، وما نستطيع أن نواصل به المسيرة الحضارية لنسترد أمجادنا وعزنا.
يقدم هذا البحث أنموذجا قائما وشاهدا ناطقا بهذه الحقائق لعل الأجيال الحاضرة تستوعبه وتستفيد منه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصدق الله عز وجل القائل (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا)، وهو القائل جل وعلا (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)، هذا وعد صادق متى أخذ المسلمون بالأسباب المشروعة للنهوض، وشقوا طريقهم على سنن وهدي المصطفى صلى الله وسلم والسلف الصالح لاسترداد مكانهم بين العالم.
يتم العرض لعنصرين أساسيين: العرض التاريخي أولا متمثلا في حلقتين رئيستين، ثم العرض الحضاري ثانيا في حلقتين رئيستين أيضا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
مسجد البيعة العنوان
البيعة العهد والميثاق على الطاعة، بايعه على الطاعة وتبايعوا عليها.
«بيعة العقبة أي التي تنسب إليها جمرة العقبة وهي بمنى».
قال المحب الطبري: «الظاهر أنها العقبة التي تضاف إليها الجمرة؛ إذ ليس أظهر منها، وعن يسار الطريق لقاصدي منى من مكة، شعب قريب منها، فيه مسجد مشهور عند أهل مكة أنه مسجد البيعة، وهو على نشز من الأرض، ويجوز أن يكون المراد من العقبة ذلك النشز، وعلى الأول يكون قد نسب إليها لقربه منها، قال في النوري: وجزم غيره بأن البيعة التي وقعت عندها البيعة هي العقبة التي تضاف إليها الجمرة».
العقبة: المشهور عند المكيين ــ جيلا بعد جيل ــ أنه الجبل العظيم الذي يحد منى من الناحية الشمالية في اتجاه مكة المكرمة، وهو من أعظم جبال مكة المكرمة ضخامة: ارتفاعا ومساحة، يتوارى من خلفه شعيب، يسمى شعيب العقبة، وقد وثق مكان بيعة الجمع من الأوس والخزرج ببناء مسجد في عهد التابعين، ظل هذا المسجد متواريا خلف جبل العقبة الضخم طوال القرون الماضية.
أزيل هذا الجبل الضخم عام 1428هـ ضمن مشروع تطوير مشعر الجمرات، وبإزالته، وما حوله ذهبت كل المعالم التاريخية التي تصف شعب العقبة الذي تم فيه انفراد رسول الله صلى عليه وسلم بالنفر من الأوس والخزرج الذين تمت فيه مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم البيعات الثلاث، وهو الذي ينطبق عليه وصف المؤرخين والمؤلفين في السيرة النبوية وفقهاء المناسك قبل هذا التاريخ دون اختلاف؛ إذ أنه قبل إزالته هو المكان الذي يتطابق والواقع الذي كان يعيشه صلى الله عليه وسلم في التخفي على دعوته وابتعاده عن أنظار المشركين المتتبعين لتحركاته في موسم الحج.
مسجد البيعة في الوقت الحاضر عام 1431هـ يختلف وصف مكانه تماما عما هو موجود في كتب التاريخ المكي القديمة، وكتب مناسك الحج؛ نتيجة مشروع تطوير مشعر الجمرات بقصد التوسعة وراحة الحجاج التي استدعت هذا التغيير.
لهذا ينبغي للقارئ الحصيف أن لا يتعجل، ولا يبادر بالقول بتخطئة المعلومة التاريخية حول وصف موقع المسجد حاليا لدى تطبيقها على الواقع المشاهد، فقد جرت على أرض الواقع إحداثات غيرت المعالم الجغرافية، المكانية والآثارية من حوله، من مهمات هذا البحث رصدها، والتنويه عنها.
المقصود بالبيعة بيعة الأوس والخزرج (الأنصار) لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأخذهم العهد والميثاق على أنفسهم على الانتصار له، ولدعوته صلى الله عليه وسلم في الموضع المسمى بالعقبة بمنى، وقد تم هذا في ثلاثة لقاءات فيما يأتي تفصيلها:
بيعة العقبة الأولى «اللقاء التمهيدي»
ثمة أحداث مهمة مهدت لبيعة الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدها بعض المؤرخين تمهيدا للبيعة الأولى والثانية، وهو رأي جمهور المؤرخين والمؤلفين في السيرة النبوية، وعدها البعض الآخر بيعة مستقلة، فجعل تعداد البيعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث بيعات، من هؤلاء الحافظ يوسف بن عبدالبر النمري (368 ــ 463هـ)، والعلامة محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت 942هـ)، والخلاف كما يقول الفقهاء خلاف لفظي؛ إذ أنهم متفقون على الجوه، تتم الدراسة هنا حسب التصنيف الأخير نظرا لإبراز كل حدث من أحداث البيعة بما يستحقه من الظهور والاهتمام.
تجلت بداية هذه المرحلة فيما حدث به أبو الوليد الأزرقي بسنده إلى جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة، وعكاظ، ومنازلهم بمنى يقول: من يؤويني، وينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يجد أحدا يؤويه، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر، أو اليمن فيأتيه قومه، أو ذو رحمه فيقولون: احذر فتى قريش، لا يفتننك، يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم...».
فلما أراد الله سبحانه وتعالى إظهار دينه وإعزاز رسوله وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من شهر رجب في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم.
«فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم:
من أنتم؟
قالوا: نفر من الخزرج.
قال: أمن موالي يهود؟
قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟
قالوا: بلى، من أنت؟
فانتسب لهم وأخبرهم خبره، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم (به) من الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا (هم) أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله أيقنوا، واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا منه، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من صفته، فقال بعضهم لبعض:
يا قومي: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم بهم يهود، فلا تسبقنكم إليه (فأجابوه إلى ما دعاهم إليه) بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، ثم قالوا:
قد علمت الذي بيننا من الاختلاف وسفك الدماء، ونحن حراص على ما أرسلك الله به، مجتهدون لك بالنصيحة، وإنا لنشير عليك برأينا، فامكث على رسلك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا، فنذكر لهم شأنك، وندعوهم إلى الله ورسوله، فلعل الله يصلح ذات بينهم، ويجمع لهم أمرهم، فإنا اليوم متباغضون متباعدون، ولكنا نواعدك الموسم من العام المقبل.
فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا».
ومن أجمع الروايات في سرد أحداث هذه البيعة ما رواه الحافظ الثقة محمد ابن سعد بن منيع الزهري (ت 230هـ) بسنده عن عدد من الرواة:
«قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله، ويعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة، وعكاظ، ومنى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة، فليست قبيلة من العرب تستجيب له، ويؤذى ويشتم حتى أراد الله إظهار دينه، ونصر نبيه، وإنجاز ما وعده، فساقه إلى هذا الحي من الأنصار لما أراد الله به من الكرامة، فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون رؤوسهم، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا لله ولرسوله، فأسرعوا، وآمنوا، وصدقوا، وآووا، ونصروا، وواسوا، وكانوا والله أطول الناس ألسنة، وأحدهم سيوفا.
فاختلف علينا في أول من أسلم من الأنصار وأجاب، فذكروا الرجل بعينه، وذكروا الرجلين، وذكروا أنه لم يكن أحد أول الستة، وذكروا أن أول من أسلم ثمانية نفر، وكتبنا كل ذلك، وذكروا أن أول من أسلم من الأنصار أسعد ابن زرارة، وذكوان بن عبد قيس، خرجا إلى مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة فقال لهما: قد شغلنا هذا المصلي عن كل شيء يزعم أنه رسول الله، قال: وكان أسعد ابن زرارة وأبو الهيثم ابن التيهان يتكلمان بالتوحيد بيثرب.
فقال ذكوان بن عبد قيس لأسعد بن زرارة حين سمع كلام عتبة: دونك هذا دينك، فقاما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم رجعا إلى المدينة، فلقي أسعد أبا الهيثم بن التيهان فأخبره بإسلامه وذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دعا إليه، فقال أبو الهيثم: فأنا أشهد معك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم...».
لم يكن عدد النفر الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى فيما ذكر ابن إسحاق يتجاوز ستة نفر من الخزرج:
1- أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد.
2- عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث.
3- رافع بن مالك بن العجلان.
4- قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو.
5- عقبة بن عامر بن نابي بن زيد.
6- جابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان.
وفي رواية جرير بن أبي حازم عن ابن إسحاق بدل عقبة بن عامر، معاذ ابن عفراء.
وقد أيد هذه الرواية بأسماء شهودها من الأنصار وتعدادهم الحافظ ابن عبدالبر النمري، وأعقبها بقوله: «ومن أهل العلم بالسير من يجعل فيهم عبادة بن الصامت ويسقط جابر بن عبدالله بن رئاب».
«وعند موسى بن عقبة عن الزهري عن عروة أنهم ثمانية. وهم: معاذ بن عفراء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت بن قيس بن الأصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج بن حارثة، وأبو عبدالرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة، وأبو الهيثم بن التيهان بن جشم بن الحارث، وعويم بن ساعدة».
توجد ملاحظتان على هذه الرواية التي عدد فيها موسى بن عقبة الأسماء واقعا في هذا النص:
الأولى: أن الأسماء التي سردها ستة وليست ثمانية، فثمة اختلاف بين هذا وبين ما قرره في بداية النص بأنهم ثمانية، وهذا يؤكد رواية ابن إسحاق السابقة بأنهم ستة وليسوا ثمانية.
الثانية أنه يوجد تباين واضح بين أسماء القائمتين، فالموجود في القائمة الأولى عند ابن إسحاق غيرهم تماما في القائمة الثانية عند موسى بن عقبة.
بيعة العقبة الثانية
تمت هذه البيعة في العام الثاني عشر للبعثة، وقد ذكر تفاصيل أحداثها الحافظ محمد بن سعد بن منيع الزهري بسنده:
«عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قالوا: لما كان العام المقبل من العام الذي لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم النفر الستة لقيه اثنا عشر رجلاََ بعد ذلك بعام، وهي العقبة الأولى من بني النجار: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ وهما ابنا الحارث، وهما ابنا عفراء، ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، ورافع ابن مالك، ومن بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة أبو عبدالرحمن، ومن بني عامر بن عوف: عباس بن عبادة بن نضلة، ومن بني سلمة عقبة بن عامر بن نابئ، ومن بني سواد قطبة بن عامر بن حديدة.
فهؤلاء عشرة من الخزرج، ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان من بلي حليف في بني عبد الأشهل، ومن بني عمرو بن عوف: عويم بن ساعدة فأسلموا، وبايعوا على بيعة النساء».
المصدر : جريدة عكاظ 26/9/1431هـ - عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء
0 تعليقات