عمارة بئر زمزم

عني الخلفاء والملوك والحكام على مر العصور ببئر زمزم عناية كبرى، فقاموا بعمارتها ، وأدخلوا عليها من التحسينات ما يليق بمكانتها . وقد سجل لنا التاريخ ما حظيت به بئر زمزم من الاهتمام ، لا سيما ذلك الولع من الخلفاء العباسـيين الذين أنيطت بهم السـقاية منذ عهد جدهم العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - .

فعن عمارتها قديمًا ، ينقل لنا الأزرقي شيئًا من ذلك قائلا :
« وأول من عمل الرخام على زمزم وعلى الشباك وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته ، ثم عملها المهدي في خلافته ، ثم غيره عمر بن فرج الرخجي في خلافة أبي إسحاق المعتصم بالله أمير المؤمنين سنة عشرين ومائتين ، وكانت مكشوفة قبل ذلك إلا قبة صغيرة على موضع البئر ، وفي ركنها الذي يلي الصفا على يسارك كنيسة على موضع مجلس ابن عباس رضي الله عنه ، غيرها عمر بن فرج فسقف زمزم كلها بالساج المذهب من داخلها ، وجعل عليها من ظهرها الفسيفساء ، وأشرع لها جناحا صغيرا كما يدور تربيعها ، وجعل في الجناح كما يدور سلاسل فيها قناديل يستصبح فيها في الموسم ، وجعل على القبة التي بين زمزم وبين بيت الشراب الفسيفساء ، وكانت قبل ذلك تزوق في كل موسم ، عمل ذلك كله في سنة عشرين ومائتين » .

وقد أطال الفاسي في وصف عمارة البئر في عصره (أوائل القرن التاسع) ، فمما قاله : «وزمزم الآن داخل بيت مربع في جدرانه تسعة أحواض للماء ، تملأ من بئر زمزم ؛ ليتوضأ الناس منها ، وفي الحائط المقابل للكعبة شبابيك ، وفوق هذا البيت ظلة للمؤذنين ، ولم أدر من أقام ذلك على هذه الصفة »  .
ويصف إبراهيم رفعت باشا بئر زمزم في عصره (أوائل القرن الثالث عشر)، قائلاً : «هذه البئر تقع جنوبي مقام إبراهيم ، بحيث إن الزاوية الشمالية الغربية من البناء القائم عليها محاذية للحجر الأسود على بعد 18 م ، وماؤها طعمه قيسوني، والبناء القائم عليها مربع من الداخل طول ضلعه5.25م ، وهو مفروش بالرخام، وهذا البناء طبقتان : في الأولى منهما خدمة البئر ، وفي الثانية خدمة من الخصيان (الأغوات) ، ويصعد إليه من يريد الاستحمام على سلم من الخشب » .


وكذا يصف باسلامة عمارة البئر في عصره (منتصف القرن الرابع عشر ) ، قائلاً : « أما حالة بئر زمزم التي عليها اليوم ، فهو بئر مدور الفوهة عليه قطعة من الرخام المرمر على قدر سعة فمه ، ويبلغ ارتفاعها عن بلاط الأرض التي حول البئر من داخل القبة ذراعين ونصف ذراع اليد أو (120سم) تقريبًا . وأرض بيت زمزم أو داخل قبة زمزم مفروش بالرخام الأبيض ، ويحيط بفم البئر أعلاه درابزين معمول من الحديد الثخين ، وفوق الدرابزين شبكة من حديد وضعت فوق ذلك الدرابزين سنة (1332هـ) ، وكان السبب في وضعها هو أن رجلاً من الأفغان ألقى بنفسه في بئر زمزم ، فلما أخرج اهتمت الحكومة التركية لذلك الحادث ، وخشيت من تكراره ، فارتأت أن تعمل حائلاً يمنع كل من أراد أن يلقي نفسه في البئر ، فتقرر عمل الشبكة المذكورة وقاية لذلك ، ووضعت بسرعة، وقد شاهدت ذلك بنفسي .

وأما البناء القائم على بئر زمزم ، فهو بناء مربع الشكل من الداخل طول كل ضلع منه 11 ذراعًا بذراع اليد ، وسطح البئر مغموس بالحجر والنورة ، وفي الجهة الشرقية باب قبة زمزم ، وعلى جناح الباب الشمالي طاقة عليها شباك ثخين ، وكان في جدار الطاقة سبيل قديم ، ثم أبطل عمله ، وكذلك على جناح الباب الجنوبي طاقة عليها شباك ثخين ، وكان أيضًا في جدار الطاقة سبيل قديم قد أبطل عمله ، ومن الجهة الشمالية ثلاثة منافذ عليها ثلاثة شبابيك ، لكل منفذ شباك ، ومن الجهة الغربية مما يلي الكعبة المعظمة ثلاث منافذ ، ولكل منفذ شباك ثخين ، وعلى نصف سطح البئر من الجهة الغربية المقابلة للكعبة منافذ ، ولكل منفذ شباك ثخين ، وعلى نصف سطح البئر من الجهة الغربية المقابلة للكعبة المعظمة مظلة قائمة على أربع متر ، بنيت في النصف الأمامي من سطح البئر ، وعلى أربع أساطين لطاف ، وضعت اثنتان منها على جدار البئر الأمامي مما يلي الكعبة المعظمة ، واثنتان على حد منتصف البئر من الجهة الشرقية » .

أما عن عمارته في العهد السعودي الزاهر ، فقد كان إلى وقت قريب تُستخدم الدلاء لاستخراج ماء زمزم من البئر ، حتى أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بتركيب مضخة عام 1373هـ تضخ ماء زمزم إلى خزانين علويين من الزنك ، ووُصِّل بكل خزان اثنا عشر صنبورًا موزعة حول البئر ؛ لاستخدامها إلى جانب الدلاء حسب الرغبة ، ثم أزيلت المباني المقامة على البئر .

وفي سنة 1382هـ صدر الأمر السامي الكريم من الملك سعود بتوسيع المطاف ، فخفضت فوهة البئر أسفل المطاف في قبو عمقه (2.7) م ، يتم النـزول إليه بدرج ينقسم إلى قسمين : أحدهما للرجال ، والآخر للنساء ، وبهذا تكون قد انتهت مرحلة الدلاء نهائيًا ، واستبدلت بالصنابير، وتم تطوير البئر إلى أبدع ما يكون، وتم ذلك عام 1383هـ.

وفي عام 1399هـ صدر أمر الملك خالد رحمه الله بتنظيف بئر زمزم على أحدث الطرق وأتم وجه بواسطة غواصين متمرسين ، وكان هذا العمل من أعظم أعمال التنظيف في تاريخ بئر زمزم ، ونتج عنه أن فاضت البئر بفضل الله بماء أغزر مما كان بكثير  .

 وأصبح ماء زمزم متاحًا في كل أنحاء الحرم المكي الشريف من خلال البئر نفسه ، وبواسطة حافظات (ترامس) موزعة بشكل متناسق في كل أنحاء الحرم يصل عددها وقت الذروة في المواسم إلى 13.800،إضافة إلى المشربيات المنتشرة في الحرم والساحات المحيطة به،حيث وصل عدد الصنابير بها إلى 1073 صنبورًا، إضافة إلى مجمعات زمزم خارج الحرم لملء الجوالين ، وسبيل الملك عبد العزيز رحمه الله بمنطقة كدي ، وقد كان هناك مصنع خاص لصناعة الثلج من ماء زمزم الذي يوضع في ماء زمزم لتبريده،ثم تم تبريد ماء زمزم آلياً بما يكفي حاجة رواد المسجد الحرام، واستغني عن تصنيع الثلج.

وحرصًا من الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي على نظافة ماء زمزم وخلوه من الملوثات فقد أمنت مختبرًا ؛ لتحليل ماء زمزم ، يقع على سطح الحرم المكي الشريف ، ترفع نتائجه للرئاسة أولاً بأول ، كما يتولى المختبر الإشراف على جميع مراحل تعقيم ماء زمزم ، حيث شيد عام 1395هـ مبنى خاص للتعقيم قرب المسجد الحرام يصل إليه ماء زمزم عبر أنابيب خاصة ، تسلط عليها الأشعة فوق البنفسجية لتنقيته وقتل البكتريا ، وهذه الطريقة يُضمن بها عدم إضافة أي مواد كيميائية ، كما أنها لا تتسبب في تغيير طعم ماء زمزم أو لونه أو رائحته ، حيث يحتفظ بجميع خواصه وتركيبه الكيميائي .

وفي عام 1424هـ وفي عهد خادم الحرمين الشريفين ارتأت الدراسات الخاصة بالمسجد الحرام ضرورة تغطية مداخل قبو زمزم للاستفادة القصوى من صحن المطاف الذي يئن في فترات الزحام بالمعتمرين والحجاج ، وتسهيلاً عليهم وحفاظًا على سلامتهم ؛ تم ذلك بتسقيف مداخل القبو المؤدية للبئر ، وتنحية نوافير الشرب إلى جانب صحن المطاف ، حيث أدت هذه الأعمال إلى زيادة صحن المطاف بمقدار (400) متر مربع مما أدى إلى استيعاب أكبر عدد من المصلين، وسهل حركة الطواف حول الكعبة،وقد وضعت المشربيات بقسميها -الرجال والنساء- تحت الأروقة الجديدة التي تم إنشاؤها ضمن أعمال مشروع توسعة المطاف بالمسجد الحرام الذي تحدثنا عنه آنفًا .

ومن الجدير بالذكر أن البئر تضخ ما بين (11) إلى (18.5) لترًا في الثانية . فقس على هذا ، كم ضخت البئر من مياه منذ نبشها بعقبه جبريل لإسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام!! وكم أروت وتُرْوي أجيالاً وأجيالاً من البشر !! يرتوي منها حجاج بيت الله وزواره من جميع أصقاع الأرض ، ويحملون منها إلى بلدانهم؛ كي يستمتعوا بريِّها ، إنهم حين يشربون ماءها ، يتذكرون به أجمل وأحلى أيامهم ، ويهادون بها أحبابهم ، إنها آية من آيات الله البينات ، إنها خير ماء على وجه الأرض ، كما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

المصدر : موقع بوابة الحرمين الشريفين .