السفير الفنان عبد الله صالح حبابي
أشك بأن تجربة السفير الفنان عبد الله صالح حبابي، الذي دخل بوابة الـ90، تعد واحدة من أهم مراجع التوثيق السياسي للعمل الدبلوماسي في المملكة الذي انطلق مع بداية تأسيس وزارة الخارجية السعودية.. حبابي الذي له من اسمه أكثر من نصيب، عاش حياة الفقر والحرمان فداوى جراحه بالغناء، وعندما مات والده وتركه يتيما مع أشقائه قفز فوق معاناته وصادق الكبار ليجد في قربه منهم جدارا يستند إليه، لكنه لم ينس دموع أمه وهي تعذب بعصا خاله، فكان التفوق نقطة التحول في حياته؛ بحثا عن نقطة ضوء للخروج من عتمة الفقر والحاجة، ففتح الله عليه، برضى الوالدة، حدود الدول وقرب له المسافات.. السفير الذي ألقى عصا الترحال وهو يدخل سنوات الشيخوخة ما زال متمسكا بأهداب الحياة رغم المرض، وتشعر في مجالسته أن للحياة معنى وهدفا.. عايش سقوط الملكية في أفغانستان ومجيء الشيوعيين، وشاهد انحسار المد الصهيوني في أفريقيا، وساهم في تراجع عبد الكريم قاسم عن أطماعه في الكويت، وكان حاضرا ساعة اغتيال الرئيس كينيدي، ثم تراقص في خاتمة عمله السياسي على أنغام السامبا البرازيلية.. حديث بدأ بجرح نازف وانتهى بدعوة لستر العيوب وحسن الخاتمة.
ولدت في حارة المعابدة في مكة المكرمة؛ ابنا بكرا لعائلة فقيرة، ونشأت يتيما فلا أب رعاني ولا خال رباني، وكانت أمي (رحمها الله) تعمل بالمنسج وتخيط الملابس وتبيعها لتستر نفسها وإخواني الأصغر مني صالح ومحمد (رحمهما الله). في تلك الأيام الساخنة بهواء الصيف الحار مع مطلع الخمسينيات الهجرية، تعرفت إلى الفقر وتعرف إلي بفمه وأسنانه وعضني في كثير من الأيام، لدرجة أنني كنت أشاهد الناس يأكلون وأتمنى أن آكل ولو لقمة واحدة معهم.
وكنت أحاول أن أفعل شيئا يخفف من معاناتنا وفقرنا، وحاول خالي أن يأتي لي بجبة المطوفين لعلني أنجح في اصطياد الحجاج في الحرم، لكنني واجهت مع قرنائي من صغار السن، سطوة المطوفين الكبار من أصحاب الأجسام الضخمة فاكتفينا بالسير من ورائهم مثل الأشلاء ونردد ما يقولونه من دعاء، وفي النهاية نحصل من الحجاج على قرش أوقرشين، وتذهب الريالات للمطوفين الكبار، ولم أكن -رغم حاجتي لها- أصرف منها شيئا على نفسي، إنما أذهب إلى البيت وأسلمها للوالدة التي كانت تتحمل قسوة خالي (رحمه الله) وشدته معها، وفي أحد الأيام توفي أحد جيراننا فأقيم العزاء في جبل السليمانية، فقررت الوالدة الذهاب للعزاء، وعندما جاء خالي للمنزل لم يجدها فانتظرها حتى عادت وقام بضربها أمامنا بعصا غليظة أشبه بالدرة، ومن كثرة إيذائه لها ذهبت مسرعة إلى قسم الشرطة لشكوته، فنادانا رئيس القسم وسألني مع إخواني: هل تريدون البقاء مع أمكم أم خالكم؟ فاخترنا أمنا، ولم أستطع أن أمحو من ذاكرتي مشهد ضربها، فحملت معاناتي في صدري، وحاولت قدر استطاعتي أن أخفف عنها وأعوضها، وقد شاهدت عزي قبل وفاتها (رحمها الله) وسافرت بها لعدد من الدول التي زرتها، خصوصا مصر التي أحبتها كثيرا وأحببتها أيضا «مصر التي في خاطري أحبها من كل روحي ودمي ياليت كل مؤمن يحبها يعزها مثلي أنا نحبها من روحنا».
• هذا يعني أنك لا تؤيد الضرب في التربية؟
ــ إطلاقا، وأولادي ربيتهم على أنهم أصدقائي والحمد لله.
• وما علاقتك بالغناء والفن، وأنت فقير جوعان؟
ــ كنت أستعيض عن الفقر بالغناء، وكنا نفرغ علب الكبريت من الأعواد ونقفلها ونعيدها كأنها صندوق غناء، ونظل نغني مع الكبريت من محبتنا للفن ولم يكن لدينا لا راديو ولا بطارية شحن. وعندما كان الناس الذين يمتلكون أجهزة راديو يتناقلون الكلام عن حفلة لأم كلثوم أو أن عبد الوهاب سيغني (كيلوباترا) أو (حياتي أنت) أو (الجندول)، نحاول أنا وبعض زملائي من الفقراء أن نسترق السمع من الجيران لنلتقط ولو هنيهات، ونأتي في المدرسة في اليوم التالي لنردد في شلتنا المعجبة بعبد الوهاب بعض المقاطع وكان معي سليمان فدا وحمتو كاظم وبعض المحبين.
• لم تشغلكم كرة القدم رغم قوة فريق الوحدة آنذاك؟
ــ كانت موجودة ولكن معرفتنا بها معدومة، ومن كان مستعدا ليأخذني إلى ساحة إسلام ويردني إلى البيت، خصوصا أن أمي تخاف علي كثيرا من الخروج، وكان خالي (الله يرحمه ويغفر له) شديدا ومسيطر علي كثيرا. ورغم ذلك فقد كنا نذهب كشلة للاصطياف في الطائف التي كانت المصيف الوحيد وكنا نركب في سطوح السيارات واللي ربنا يمن عليه بقرش أو اثنين فنعطيها لأشهر سائقي تلك الأيام (الحريري والقرا) لأجل أن يجلسنا بجواره على المقعد الجلدي ولم نكن نسلم من التحرشات.
• لكنك لم تنهزم أمام هذه الظروف، وبرزت ميولك الأدبية منذ الصغر؟
ــ حاولت أن أخفف من ألم اليتم بمصادقة الكبار مثل عبد الرزاق بليلة وعبد العزيز الرفاعي، وظللت أصادق هذه النوعية من الرجال الذين أحسست بقربي منهم أنهم يحقنونني بالثقافة والأدب، وأدين بالفضل لصديقي وحبيبي عبد الله عبد الجبار؛ لأنه رباني أدبيا وحببنا في الأدب، وأنا من المعجبين بمحمد حسن عواد وكنت أحضر النادي الثقافي في جدة من أجله فألتقي بالرواد الكبار، واعتدت أن أذهب إلى مكتبة الجيل الجديد التي أنشأها عبد الرزاق بليلة وصالح جمال عند باب السلام، وعندما كنا نقرأ كتب (النظرات والعبرات) نبكي وكم من دموع سالت مني في سبيل ذلك من كثرة الحرمان الذي عشناه في تلك الفترة، وأشرفت خلال دراستي في تحضير البعثات على إصدار صحيفة خطية اسمها (الطالب الحجازي) وشاركني فيها حسن جوهرجي وآخرون ونطبع منها خمس نسخ ونوزعها.
• هل شكلت مدرسة تحضير البعثات شخصيتك المنفتحة على الناس بعد مرحلة انطواء وفقر وعوز؟
المنافسة في تحضير البعثات بين المبرزين كانت واضحة ولذلك تفوقت عليهم، أما في المدارس الابتدائية -مثل مدرستنا الرحمانية التي تعتبر المدرسة الأولى في المملكة والتي تجاوز عمرها الآن مائة وسنة واحدة- فالمنافسة وليدة الباكورة وكثيرا ما وضعت في الفلكة وأكلت علقات منها، لدرجة أنني أعتبر نفسي (ولد الفلكة).
• الغريب، إنك كرهت كلية الأداب مع أنك خريج مجتمع أكثر رموزه من الأدباء؟
ــ تفوقت على نفسي وأقراني في مدرسة تحضير البعثات إلى أن تخرجت، لكنني صدمت عندما ذهبت إلى جامعة فؤاد في القاهرة مبتعثا مع زملائي، وكنت الأول على الفصل وأحمد زكي يماني الثاني، بأنهم فرضوا علينا أن يدخل كل طلبة الفصل كليات عسكرية كالشرطة والدفاع والطيران على أن يدخل الأول والثاني كلية الآداب فكرهت كلية الآداب وأصابتني سخونة في أيامي الأولى بها من كآبة وتعقيد التدريس فيها، وكان أحمد زكي يماني مثلي لا يرغب في الآداب ويريد كلية الحقوق، فكتب كتابا للأمير عبد الله الفيصل بذلك وجاءته الموافقة فورا، فتشجعت مثله وكتبت عريضة أيضا للأمير عبد الله الفيصل وطلبت الالتحاق بكلية التجارة (قسم العلوم السياسية) فجاءتني الموافقة فورا.
• ويبدو أن دعوة الوالدة فتحت لك أبواب العمل في الخارجية في وقت قياسي؟
ــ عندما انتهيت من دراستي عدت إلى المملكة، وكان على متن الطائرة التي تقلنا من القاهرة إلى جدة وكيل وزارة الخارجية السعودية يوسف سلطان، وكان يتجول في الطائرة ليسأل الطلاب عن رغباتهم، وفي تلك الفترة كان خريج الجامعة يلتقط التقاطا، فأخبرته برغبتي فتحدث إلى السيد طاهر رضوان سكرتير وزارة الخارجية آنذاك، وتم إبلاغي بأن علي الانتظار لحين شغور وظيفة، ومن حسن حظي أن ناصر المنقور (رحمه الله) الرجل الذي أحببته كثيرا وكان واحدا من أروع الرجال الذين عرفتهم ترك عمله في الوزارة، وذهب إلى التعليم فعينت في وظيفته وأول عمل قمت به في الإرشيف، حيث تمر علي كل المعاملات والبلاوي التي تحدث في المنطقة، وأعتبره مدرستي الحقيقية وتعلمت منه كيف أنجح كسفير.
• مع أن كل أصدقائك أصبحوا وزراء؛ بدءا من علي الشاعر وأحمد زكي يماني وحسن المشاري وانتهاء بإبراهيم العنقري؟
- كلهم أحبائي؛ ومن أعزهم عبد الوهاب عبد الواسع وناصر المنقور وإبراهيم العنقري (رحمهم الله جميعا) والأخير كان من أفضل الناس، وقد ولد أنيقا ومات أنيقا وكان أنيقا في حديثه ووقفته وتصرفاته ومعاملاته مع الناس، ولا أنسى مواقفه معي خصوصا عندما تعرضت لأزمة صحية أدت لشبه شلل في يدي، فأرسل لي رسالة مواساة وقال لي: اختر أي بلد تريد أن تتعالج فيه فورا.
أما أحمد زكي يماني فهو من أعز أعز أصدقائي ودائما مايأخذني وأهلي أيضا معه في سفرياته الخارجية، وعندما سرقوني في البرازيل اتصل بي وقال لي: روح اختار مجوهرات من أي بلد علشان تعوض ما سرق. وكان موقفه معي غيضا من فيض كرمه وأخوته النادرة، بل إنني أتشرف دائما عندما أقول إنه أخي الذي لم تلده أمي.
• ما مدى تأثير السيد عمر السقاف عليك؟
ــ السيد عمر السقاف ظل الساعد الأيمن لوزير الخارجية -آنذاك- (الملك فيصل بن عبد العزيز) وتدرج الرجل حتى أصبح وزير الدولة للشؤون الخارجية، وقد ساعدني وزملائي ومد لنا يد العون والمساعدة، وله فضل علي وعلى زملائي لا ينسى، فقد كان يشجعنا للذهاب إلى الأمم المتحدة في الدورات السنوية الدورية لنتدرب، وواظبنا على حضورها سنويا.
• عايشت الجامعة العربية في أوج قوتها؟
ــ عملت في الجامعة العربية عندما كان أمينها العام محمد عبد الخالق حسونة، وشهدت في تلك الفترة مشاكل كبيرة لعل أبرزها مطالبة العراق بضم الكويت عام 1961م في فترة رئاسة عبد الكريم قاسم، واعتبر العراقيون الكويت اللواء الرابع عشر من ألوية العراق، فاشتغلنا مع طاهر رضوان وجعلنا كل الدول العربية تصوت ضد العراق مما أدى لانسحابهم من الجامعة العربية، وفشل العراقيون على مدى سنتين في إقناع العالم بصدق دعواهم.
• ما أكبر تهديد للأمن الوطني في تلك الفترة؟
ــ عبد الناصر، ولا أخفيك أنني أحترمه لمبادئه وأعجبتني رجولته، وكان يريد أن يعمل شيئا لكنه للأسف تصرف بمكر غير طبيعي، وانحرف عن أهدافه الأساسية التي نادى بها ولم يتحقق من شعاراته شيء.
• كنت متأثرا بالرئيس الأمريكي الراحل كينيدي؟
- كنت أعمل قائما بالأعمال في السفارة السعودية في واشنطن، فحضرت احتفالا رعاه الرئيس جون كينيدي ومنح فيها الشهادة الفخرية فقال مداعبا الطلاب: أنا اشطر منكم، حصلت على الشهادة في يوم وأنتم تعملون عليها منذ سنوات.
الرئيس كينيدي فهم مشاكلنا بحيويته وذكائه، واغتياله شكل صدمة للعالم كله، وقد رافقت السيد رشاد فرعون الذي مثل الملك فيصل (رحمهما الله) في مراسم التشييع ضمن وفد السفارة وشاهدت كيف وضعوا على قبره (الانترنال فليم)؛ أي الشعلة الدائمة تخليدا له.
• ما اللحظات التاريخية التي شهدتها مع الملك فيصل عندما كنت في سفارة المملكة في واشنطن؟
ــ كلما أتذكر قوة مواقفه في زيارته للولايات المتحدة عام 1971م، أشعر بالفخر والاعتزاز، خصوصا عندما ألقى خطابه في منتدى (نادي الصحافة الأمريكية) وتجمع فيه مختلف أطياف الصحافة المؤيدة للعرب والمعارضة لهم وكذلك الحال بإسرائيل وبعد انتهائه من كلمته بدأت انتقادات اللوبي الصهيوني وتفسير الكلمة باتجاهات أخرى واتهام السعودية بالعنصرية، فرد عليهم (رحمه الله) منتقدا قيام يهود أمريكا بتزويد إسرائيل بالمال وقيام الأخيرة بتوجيه هذه المبالغ لشراء أسلحة لقتل الفلسطينيين. واقتضى برنامج الزيارة قيامه بزيارة مدينة نيويورك التي رفض حاكمها (نيلسون ركفلور) استقبال جلالته رغبة منه في التقرب من اليهود والترشح للرئاسة الأمريكية، كما رفض عمدة نيويورك (لينسي) إقامة مأدبة غداء للملك فيصل فكانت جملة الملك الشهيرة: «إننا لم نطلب مقابلة (ركفلور) ولا غداء (لينسي)، ورغم ذلك زار نيويورك والتقى بعد ذلك في خارج نيويورك بنائب الرئيس (جونسون).
• وما سر ذهابك إلى إيران؟
ــ كانت مرحلة اكتساب خبرات بعد باكستان وقبل وصولي إلى أفغانستان كسفير لأول مرة، وقد استمتعت بالعمل مع السفير طلعت غوث آنذاك وكان عميدا للسلك الدبلوماسي في طهران، وما زلت أتذكر عندما كان شاه إيران محمد رضا بهلوي يعطينا جنيه ذهب في عيد ميلاده، وكانت عينا حمزة غوث على كل جنيه يأخذه أي واحد منا؛ لأن الجنيه الذهب كان له ثقله في بداية الستينيات الميلادية.
• عايشت في كابل كسفير سقوط الملكية التي كنت تتعاطف معها؟
ــ الملك ظاهر شاه كان رجلا طيبا وسياسيا محنكا ومحبا للمملكة كثيرا ويحب التقارب، وقد وجهت له الدعوة لزيارة المملكة وقام بالزيارة، ووجه الدعوة للملك فيصل لزيارة أفغانستان، لكن لم تتحقق الزيارة بعد الانقلاب عليه ومن يومها وأفغانستان تعيش واقعا سياسيا مأزوما، وكلما جاءت أمة لعنت أختها مع أن البلد جميل وموقعه استراتيجي وفيه من الخيرات ما يجعل شعبه غنيا وسعيدا. وأنا كنت موجودا في كابل عندما حدث الانقلاب العسكري على الملك ظاهر شاه، وكان منزلي قريبا من وزارة الداخلية الأفغانية فاقترح السفير الباكستاني أن أذهب لبيته، وجلسنا سوية مختبئين تحت درج السلالم في منزله من شدة القصف الذي حدث تلك الليلة. والطريف أن محمد داوود فكر أن يحسن علاقاته مع الدول الإسلامية بعد انقلابه على ابن عمه الملك ظاهر شاه وبمجرد وصوله للمملكة انقلبوا عليه وأكلوه.
• ما سر ترشيحك للعمل سفيرا في أوغندا، رغم نجاحك في أفغانستان؟
ــ أصبحت سفيرا في أوغندا بأمر من الملك فيصل عندما كان (رحمه الله) يكافح لإيقاف النفوذ الصهيوني في القارة السوداء، فرشحني السيد عمر السقاف لهذا الموقع.
• تأقلمت كثيرا مع سكان القارة السوداء؟
ــ أحببت عيدي أمين كثيرا وتطورت علاقتي معه لدرجة أنه كان يستضيفني بشكل شخصي في رمضان في بيته؛ كان رجلا صادقا وغيورا على الإسلام، وأتذكر أنه طلب مني توفير طائرة من نوعية (سي ون ثيرتي) ليحارب بها الإسرائيليين وقال لي في الهاتف: نريد أن يعرف العالم أننا كلنا ضد إسرائيل، فأرسلت الطلب وجاءتنا طائرة من نوع (ون ثيرتي) التي كانت تشبه بطن المرأة الحامل ولا تصلح لمثل هذه المهمات، فأخذ الطائرة وذهب بها إلى المدينة المنورة ليحضر المؤتمر الإسلامي الذي أقيم لأول مرة وسجل سابقة تاريخية بأن أصبحت أوغندا دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي مع أن أغلبية شعبها مسيحيون.
• لكنك اشتهرت كسفير بعد حادثة الهجوم عليك في البرازيل؟
ــ البرازيل حبيبة إلى قلبي وعشت فيها سنوات أثرت على حياتي وحياة أولادي إلى الآن، وحادثة السطو لم تؤثر على محبتي لها، وحدثت في الليلة التي كنت فيها عائدا من مناسبة احتفالية في منزل السفير الكويتي ودخلنا منزلنا، ولم يكن هناك ما يلفت الانتباه، وعندما دخلنا غرفة النوم فوجئنا بوجود رجل مسلح بمسدس وتفاوض معنا بحثا عن أموال وكان عندي صندوقان في الغرفة فقلت له: إن فتحت الصندوق الأول فسينطلق جرس الإنذار ويأتي الحرس، وإن فتحت الثاني فستجد فيه ما تريد وفعلا فتح الصندوق الثاني وكنت أضع فيه نقودا ومجوهرات من الأحجار الكريمة التي كنت أشتريها لزوجتي وأولادي، فأخذها كلها ثم قام بتربيطنا تحت تهديد السلاح ولم يجد ما يربطنا به في الغرفة إلا الكرافتات التي كنت ألبسها وقمت بإخراجه من أحد الأبواب لكي لا ينتبه له الحراس خوفا من حركة متهورة منه تعرض سلامتي وأسرتي للخطر، ولم ننم ليلتنا وفوجئنا في اليوم التالي بالخبر منشورا في جميع الصحف البرازيلية.
• وأين كان حرس القصر؟
ــ كانوا مستأجرين من مكاتب خاصة، ويغطون في نوم عميق لحظة دخوله.
• وكيف كانت ردة فعل الحكومة البرازيلية؟
ــ زارني الرئيس بعد يومين من الحادثة، وقال لي لو طبقنا حكم قطع اليد الذي تطبقونه في بلادكم لوجدت أكثر الشعب البرازيلي مقطوعي الأيدي من كثرة انتشار السرقات في البلاد، وقد قامت السلطات الأمنية البرازيلية بجهود كبيرة بعد الحادثة وألقت القبض على السارق الذي كان عضوا في عصابة كبيرة، وتم العثور على الكثير من المسروقات لديهم ومن ضمنها بعض المجوهرات التي سرقت. وقد وصلتني اتصالات من عدد كبير من المسؤولين وكانت الحادثة خيرا لي؛ إذ تعرفت من خلالها إلى سمو الأمير سلطان الذي هاتفني لأول مرة وأطمأن على سلامتنا، وهو شخصية محبوبة جدا ومنتج في العمل وقد سعدت بتعرفي إلى شخصيته عن قرب في فترة وجودي في البرازيل عندما زارنا وكنا نحاول أن نطور العلاقة، واتذكر أن الحكومة البرازيلية سعت لأن تبيعنا أسلحة من صنعهم وعملوا دبابة أسموها (فهد) لإقناعنا بعرضهم، لكن الصفقة لم تتم لارتباط المملكة باتفاقية شراء دبابات من بريطانيا.
وقد زارنا في البرازيل عدد كبير من المسؤولين السعوديين بعد أن توطدت العلاقات كثيرا في مختلف المجالات من الأمراء والوزراء، لكن الأمير طلال بن عبد العزيز كان أكثرهم حضورا لمسؤولياته تجاه الأطفال في منظمة اليونيسيف، وأذكر أن سموه علق على من ينادونني بعبد الله صالح حبابي بقوله على طريقة أهل نجد: عبد الله بن صالح حبابي.
• في تلك الفترة التقيت بديكتاتور تشيلي بينوشيه؟
ــ اجتمعت معه أكثر من مرة بصفتي سفيرا غير مقيم لدى بلاده، لكنني لم أنخدع برقته في الكلام وظللت أتعلم من عملي الدبلوماسي أن أفرق بين مواقفي الشخصية ودوري الدبلوماسي فلم يخدعني عبد الناصر بشعاراته ولم تحرك في قناعاتي ابتسامات محمد نور تراقي رئيس أفغانستان الذي ذاق من نفس الكأس الانقلابية على سلفه محمد داوود.
• يقولون إنك تزوجت بالسر هناك؟
ــ يا ليت.
• يعني خدمت غيرك ونسيت نفسك؟
ــ فعلا اشتغلت خاطبة لعبد الجواد وغيره.
• وصنعت منه سمسار لاعبين؟
ــ أحد أبنائي أيضا أصبح سمسارا وهو مقيم هناك وفتح له مطعما، فكان اللاعبون البرازيليون يمرون عليه ويبدون رغبتهم للعمل واللعب في المملكة فيتوسط لهم مع النوادي السعودية لأجلهم.
• رغم علاقتك المميزة بالنجم الكروي بيليه، إلا أنك لا تراه الأفضل؟
ــ اجتمعت به أكثر من مرة، لكن اللاعب الموسيقي الفنان الذي لم أر له مثيلا هو الدكتور سقراط الذي لعب الكرة كعازف، وأعتبره أفضل لاعب في العالم في زمنه، وحرصت مع صديقي الأستاذ هشام ناظر الذي يشاركني الإعجاب به على حضور مباريات فريق كورينثيانز للاستمتاع بأدائه أكثر من مرة.
• وكيف تعلمت لغات عدة مع أنك لم تدرس في معاهد متخصصة لانشغالك بمهامك السياسية؟
ــ حاولت قدر المستطاع أن أكون سفيرا ناجحا وشعبيا. تحركت وسط الناس طوال فترة وجودي في كابل والدول الأخرى التي عملت فيها وتعلمت اللغة من خلال تعاملي مع الشعب، وكنت أحتفظ بدفتر في جيبي أكتب فيه كل يوم الكلمات التي تستعصي علي حتى تمكنت من إجادة الفارسية والبشتونية والبرتغالية والفرنسية بل والغناء بها أيضا.
• تردد بأن زيارة محمد عبده قبل فترة لمنزلك ألغت طلاليتك؟
ــ كنت طلاليا لفترة طويلة ولكنني أصبحت عبداوياً لإحساس الفنان المرهف الذي يتمتع به محمد عبده الذي أعتبره أحسن فنان سعودي وما زال، أما طلال مداح (رحمه الله) فهو في القمة وأشبه بعبد الوهاب في مصر.
• مع أن الدكتور عبد الله الغذامي قال بأن حنجرته شاخت؟
ــ الغذامي أديب من الطراز الأول فهو وهابي مثلي، لكنني لا أستطيع أن أنافسه في الجدل بشأن محمد عبده.
• هل صحيح أنك من عشاق محمد عبدالوهاب؟
ــ فوق ما تتصور.
• لكنك حاولت تسلم عليه ورفض؟
ــ لم يرفض، والقصة أن فيلم (غزل البنات) كان يعرض في تلك الفترة والمتعارف أن يحضر الفنانون الأوائل في الفيلم العرض الأول لتحية الجماهير، فجاء عبد الوهاب مع أنور وجدي وبقية الممثلين فضجت الصالة، وكنا نحضر كطلبة مفلسين لا نأخذ أكثر من ثلاثة جنيهات في الشهر في منطقة رخيصة التكلفة تسمى (البلكونة) ومر من أمامي فلم أصدق نفسي فعانقته من شدة فرحي وقبلته على خديه وكان لا يحب ذلك فقال لي بلثغته الجميلة المعروفة: ما كفاية بث! فاعتبرت كلامه أمرا لي فتوقفت.
• تفضل عبد الوهاب على أم كلثوم؟
- في رأيي الشخصي المتواضع وبعيدا عن عشقي لعبد الوهاب؛ فهو يفوق أم كلثوم وأي مطرب أنجبته مصر.
• تجامله علشانه صديقك؟
- ياليته كان صديقي، لكنني كنت وما زلت وسأظل عاشقا له ولأغانيه وأحتفظ بأشياء كثيرة من تراثه، ويعجبني فيه أنه فنان وتاجر ذكي يعرف كيف يلتهم اللقمة من فنه، وله مكانته وأهليته التي تجعل منه تاجرا وفنانا.
• تعتبرها ميزة في الفنان أم جشع؟
ــ طبعا ميزة ومهارة وإلا تبغاه يعيش شحات مثل بعض الموجودين عندنا.
• أكثر واحد يشبهه في هذه الميزة محمد عبده؟
- بالتأكيد.
• لكنك لا تعتبر تجربة بليغ حمدي مع أم كلثوم رائدة؟
- أم كلثوم عملاقة وسنباطية دون شك ومن قال خلاف ذلك فهو مكابر وسارت على نمط الملحنين الأوائل مثل زكريا أحمد والقصبجي وغيرهما، وعندما لحن لها عبد الوهاب بعد السنباطي غير في تكتيكها الغنائي ونقلها نقلة لا تشعر بها إلا من خلال الحس الفني.
• بليغ شبابي ومجدد؟
ــ لا نكران في ذلك، ولكن لا يوجد ملحن وموسيقي في مصر لم يتأثر بعبد الوهاب مع تميز كل واحد بعد ذلك بشخصيته وأسلوبه وتطلعاته الخاصة، وبليغ فنان كبير وله شخصيته في التلحين ونجح مع أم كلثوم.
• هل ما زلت تعيش حديث المعاناة في حياتك؟
- يشغلني كثيرا إصابة أحد أولادي بمرض فوبيا الخوف وتأثير ذلك على زواجه وعمله وشخصيته، لكن الحمد لله أنه في وضع أحسن الآن.
• لماذا كتبت وصيتك ووزعت إرثك بين أبنائك قبل عشر سنوات؟
ــ الصحيح أنني أوصيت بألا يحرم أولادي من ميراثي، والحمد لله أنني بنيت لكل واحد منهم بيتا، حتى الذي يقيم في البرازيل اشتريت له منزلا هناك.
• توقفت فجأة عن إكمال كتابة مذكراتك التي بدأتها منذ فترة؟
ــ فعلا بدأت بكتابة مذكراتي بعنوان (دبلوماسيات) وأعطيتها لواحد من أبنائي لتفريغها.
• هل نجحت في أن تجمع بين العازف والسياسي والأديب في الوقت نفسه؟
ــ يكفي أن يجمع بينهم الفن والموسيقى كما يقول عبد الوهاب. وعندما كنت صغيرا أحببت السمسمية الينبعاوية وحاولت أن أتعلم العزف مع أحد الإخوة عندما كبرت لكنني لم أوفق، ولم أجرب أن ألحن لأنني لا أريد أنا أكون فنانا من الطراز الأول، وما زلت مقتنعا بنجاحي في تحقيق أهدافي التي وضعتها لنفسي، وأتمنى أن تستر عيوبي إن رأيت مني شيئا لا يعجبك، ونسأل الله حسن الخاتمة.
عكاظ 2/5/1431هـ - حوار : بدر الغانمي .
0 تعليقات