تجلّيات «الحنيفية» في مكة قبل الإسلام

 من المفارقات أن «أم القرى» - وهي مجرّد سوق للقبائل الضاربة في الحجاز - باتت أم الحواضر في شبه جزيرة العرب، القابضة على زمام تجارة الشرق، لا سيما بعد أفول حضارة اليمن، واندفاع موجات من قبائله شمالاً حتى الشام والعراق، عاكسة تأثيرها على التركيب السكاني في المنطقة بما فيها الحجاز، لتصبح مكة محور تلك الحركة ونبضها في عالم تتجاذبه القوى الكبرى وتتصارع على السيادة فيه.

          كيف حدث ذلك؟ ولماذا مكّة بالذات، وهي {واد غير ذي زرع} كما جاء في السياق القرآني، إلى توصيفات مماثلة في أدبيات الجغرافية والتاريخ؟ لابدّ إذاً من العودة مسافة طويلة في الزمن، حيث بدأ يتردّد اسمها في المرويات القديمة، وهي ليست خالية من الأسطرة، لاسيما المتصلة بهجرة «العماليق» - من العرب العاربة البائدة - إلى الحجاز، من دون أن يترك هؤلاء من الأثر ما يذكر في التاريخ، سوى أنهم نزلوا في «تهامة»، وسوى أخبار عن طغيانهم و«فسادهم في الأرض». ولعل من أسباب ذلك، أن المرويات افتقدت إلى معطيات أكثر عن تلك الهجرة الغامضة، أو أنها تعمّدت تهميشها، مؤثرة ربط مكة خصوصاً بالحنيفية، عقيدة إبراهيم، على أنها بداية التكوين التاريخي للحاضرة قبل الإسلام.

          ومن هذا المنظور فإن محطات ثلاثا بدت أكثر تكاملاً وانسياباً في تاريخ مكة القديم وهي:

          1 - المرحلة الحنيفية، حيث كانت هجرة النبي إبراهيم، المتزامنة مع نفوذ بني جرهم، وقد تزوّج منهم ابنه إسماعيل، وأنجب - حسب الأزرقي - «اثني عشر رجلاً». ويرى الإخباريون في هذه الهجرة نعمة حلت بـ «بلد قحط» - حسب توصيف المقدسي - بات في ظلّها «آمنا» موفور الرزق، كما جاء في سورة البقرة   رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر...  . وفي هذا السياق تمّ بناء البيت (الكعبة) على أكمة مرتفعة، وسرعان ما رسخ في الوعي التاريخي لمكة، مستمدّة منه قوتها ومناعتها عبر القرون، على الرغم من الانحراف، فيما بعد، عن رسالة إبراهيم والقيم الدينية التي مثّلها «البيت».

          2 - المرحلة الخزاعية: من غير الواضح إذا كانت السلطة في مكة قد تداولها بنو إسماعيل - حسب الأزرقي - أو أنها ظلت خاضعة لبني جرهم الذين استخفوا - حسب المؤرخ نفسه - بأمر البيت الحرام وارتكبوا أموراً عظاماً، على الرغم من تحذير رئيسهم مضاض بن عمرو، وهو حمو إسماعيل، لهم من البغي. وقد حدث ذلك فيما كانت الهجرة القبلية مستمرة من اليمن بعد اضطراب أحواله الاقتصادية، ومن أكثرها تعداداً حينذاك قبيلة «الأزد» التي تفرعت ما بين يثرب وعُمان والشام، كما «انخزع» فرع منها إلى مكة، عُرف باسم «خزاعة»، في وقت اشتدت الأزمة فيه، ما ساعد على حسم الموقف لمصلحة المنافسين الجدد بعد اقتتال دام أياماً ثلاثة، كانت كافية لاجتثاث بني جرهم عدا قلّة قليلة منهم. ولعل ما يلفت حينذاك أن «البيت» أصبح رمز السيادة في مكة، ولكن من دون أن يقترن ذلك بالمضمون الديني الذي عبّر عنه بنو إسماعيل وبعض المحيطين بهم من جرهم.

          3 - المرحلة القرشية، وفيها - استجابة لتغيرات المرحلة - تبلور الدور الاستثنائي لمكة، لتشكل حلقة أساسية في حركة التجارة العالمية، يتسع مداها ما بين منابع السلع وأسواقها. وخلافاً لخزاعة اليمنية، فإن قريشاً تنتمي إلى القبائل العدنانية متحدرة من كنانة، وربما كان لاسمها علاقة باحترافها أساساً التجارة، كما يُردّ في المرويات إلى التقرّش الذي يحمل المعنى عينه، فقيل «يتقارشون أي يتجرون» كما ورد في «شفاء الغرام» للمالكي. وفي ضوء ذلك فإن قصي بن كلاب الذي وحّد قومه وجاء بهم إلى مكة، كانت التجارة حرفته التي برع فيها، ما تجلى في ترويض النزعة القبلية لمصلحة «مؤسسة» التجارة، ليس في بُعدها الاقتصادي فحسب، بل الاجتماعي المحصّن لها والمنظِّم لحركتها الداخلية والخارجية.

يتبين مما سلف أن التكوين التاريخي لمكة، عبر محطاته الثلاث، تكاملت فيه عناصر الدين (البيت) والجغرافية (الموقع الوسطي)، إلى جانب التحدّي في مواجهة البيئة القاسية، ما جعلها تميل بالفطرة إلى التجارة، خياراً أساسياً في حياتها الاقتصادية، خلافاً للطائف ويثرب حيث تفوقّت كلتاها بالطبيعة الملائمة للزراعة. وإذا كان من المرجّح أن مكة خرجت من سوقها المحلية إلى الأسواق البعيدة، ابتداء من العهد الخزاعي، فإنها حقّقت نجاحاً أبعد مدى في عهد سيادة قريش، التي جعلت منها محور الحركة في القرن السادس الميلادي، والقابضة بإحكام على المثلث التجاري الحيوي ما بين اليمن والعراق والشام. وقد أحدث ذلك انقلاباً في حياة القبائل النازلة على امتداد تلك المسالك، ونمط إنتاجها، من الترحّل إلى الاستقرار، حيث باتت مواقعها محطات للقوافل تؤمّن لها الماء والخدمات فضلاً عن الحماية، لقاء ضرائب معينة.

          وكانت السيادة في عالم تلك المرحلة يتجاذبها طرفان أساسيان: الفرس الساسانيون الذين أدى انتشارهم في العراق إلى الصدام مع قوى الغرب، الممثلة حينئذ بالبيزنطيين، الطرف الآخر المنافس والطامح بوسائل شتى إلى اختراق شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى مرافئ اليمن.

          بيد أن كليهما تجنّب القيام بمغامرة عسكرية في منطقة تمتّعت بالحصانة الجغرافية المنيعة، واقتنع بحالة من التوازن تؤدي إلى قيام «دولة حاجزة»، حيث اتكأ الفرس على المناذرة (اللخميين) في العراق، والبيزنطيون على الغساسنة (الأزديين) في الشام.

          بيد أن ذلك لم يكرّس السلام الدائم في المنطقة التي شهدت أزمات فجّرت حروباً بين الدولتين «الحاجزتين»، مما كان في النتيجة لمصلحة مكة وشبكة علاقاتها الواسعة.

من الصعب التحديد بدقة متى سادت قريش في مكة، ولكن يمكن ترجيح ذلك عشية القرن السادس الميلادي أو في مطالعه، إذا أخذنا في الاعتبار تداول السلطة بعد قصي بين أبنائه حتى آخرهم أبي طالب الذي عاش حتى العقد الثاني من القرن السابع.

وكان «البيت» رمز السلطة حينذاك، بدءاً من تولّي قصي «حجابته» - على حد تعبير الأزرقي - ما يعني تكريسه زعيماً لمكة. وقد تميز عن أسلافه الخزاعيين، بأنه كان أكثر تنبّهاً لدور حاضرة الحجاز في شبكة التجارة الشرقية، واستجابة لتحديات المرحلة التي فرضت إعادة النظر في هذا الدور وتفعيل آلياته، وكل ما أدى إلى تلك النهضة التي أكسبت الحاضرة ديناميتها، مجتمعاً تجارياً، منفتحاً في الوقت عينه على التيارات الفكرية في المنطقة. ومن هذا المنظور جاء تأسيس «دار الندوة»، أداة لاستيعاب حركية الدور، لتشكّل ظاهرة جديدة في عالمها، ما حدا بالمؤرخ «لامنس» إلى وصف مكة حينذاك بـ «الجمهورية»، على غرار ما تجلّى لاحقاً في أنموذج البندقية.

          وهكذا فإن «دار الندوة»، على الرغم من هيمنة بني قصي عليها، خطّت أسس نظام تعاوني اصطلح على تسميته بـ «التكافل»، كان من شأنها فرض الأمن في الأسواق وحماية القادمين إلى مكة في مواسم الحج، من الظلم والاستغلال وما إلى ذلك.

          بيد أن القوة الدافعة بالتجارة من نطاقها شبه البدوي إلى المدى الحضري الواسع، تمثّلت بظاهرة «الإيلاف» وكان وراءها بنو عبدمناف منافسو عمهم عبدالدار، الابن البكر لقصي، الذي رغب في أن يكون وريثه في السيادة على مكة، وقد ورد في «لسان العرب» عن الإيلاف، بما يعني الذين «يؤلفون أو يهيئون أو يجهزون»، كما جاء تفسيره لدى ابن سعد مرادفاً للدأب والعادة، بما يطابق في هذا المعنى تقليد رحلتي الشتاء والصيف المنبثق عنه. أما الطبري فقد قرن الإيلاف بـ«العصم»، مستلهما ذلك من الآية الكريمة (103) من سورة آل عمران: {واعتصموا بحبل الله}، وقد تم الإعلان عنه في «البيت» تكريساً لقدسيته والالتزام به، على غرار حلفي المطيبين ولعقة الدم، وغيرهما من القرارات المهمة. وكان هاشم بن عبدمناف، في بحثه عن صيغة تضمن أمن التجارة وحيادها، كذلك تفادي حدة التنافس الاقتصادي بين قيادات قريش، قد نُسب إليه هذا الإنجاز الذي أرّخه الطبري قائلا: «فانتشروا (أبناء عبدمناف الأربعة) في الحرم، أخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشام الروم والغساسنة، وأخذ لهم عبدشمس حبلاً من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حميرْ، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن.

          وما لبث «الإيلاف» مؤسسة أن أحيط بهالة قدسية، انعكست على التجارة، ليس في قريش فحسب، بل في أوساط القبائل المنضوية بشكل أو بآخر فيه. وإذا كانت حروب «الفجار» التي اندلعت بين قريش وكنانة من جهة وبين قيس بن عيلان وحلفائها من جهة ثانية، عُرفت بهذه الصفة، لاختراقها المقدّس بالقتال في الأشهر الحرام، فإنها من منظور آخر انطوت على أسباب أكثر موضوعية، تتصل بالتنافس الاقتصادي بين القبائل الكبرى، لاسيما قيس التي وجدت نفسها خارج منظومة «الإيلاف»، أو أنها الأقل إفادة منه، ما شكّل موقفها من جانب «الإيلافيين»، تمرّداً، ربما بلغ حد الكفر، على شرعية السيادة القرشية المستمدة من الدين، انطلاقاً من عضوية العلاقة حينئذ بين المقدّس والتجارة.

          وإذا كان هاشم باعث تلك النهضة في حاضرة الحجاز والعرب، فإن ابنه عبدالمطلب لم يكن أقل وهجاً في زعامته، وربما نال من الشهرة ما يفوق سلفه، لاسيما أنه عاصر أحداثاً جعلته أقرب مسافة في سلوكه ونقائه إلى روحية الإسلام، مما يلتقي ومروية المؤرخ البلاذري بأنه «كان أعظم الناس حلماً وأبعدهم عن كل موبقة ومذنبة تفسد الرجال». إلى ذلك، فقد وُلد عبدالمطلب لأم من يثرب، كان هاشم قد اقترن بها أثناء رحلة له إلى الشام، أي أن أخوال حفيده «محمد» (ص) من هذه الحاضرة التي أنقذته بعد معاناة من حصار قريش، وفتحت له أبوابها في أعقاب بيعة العقبة الثانية.

          ولعل من أبرز منجزات عبدالمطلب في تلك الفترة، حفر البئر الشهيرة (زمزم)، تلبية لاحتياجات مجتمع بدأ يزدحم بالوافدين عليه للمتاجرة أو للمشاركة في الطقوس الدينية، وفي الوقت عينه استجابة لمتطلبات الموقع القيادي، الذي استمدّ قوته حينئذ من الوظيفة الأكثر أهمية وهي «السقاية». وقد اتسمت هذه البئر ببعض قدسية «البيت»، بمثل ما اكتنه مؤسسها شيئاً من صفات مؤسس الأخير، حتى أن المؤرخ اليعقوبي وصفه بـ «إبراهيم الثاني» تيمناً بالأول النبي رمز عقيدة التوحيد في مكة القديمة.

          بيد أن مكة، على الرغم من اتّساع تجارتها وتحصينها بالعهود الإيلافية، لم يكن ممكناً بقاؤها آمنة بمعزل عن المتغيرات السياسية والصراع على السيادة في المنطقة.

          فقد شهدت اليمن، نتيجة انحسار نفوذ الحميريين، أزمات دينية شجعت على التدخل الخارجي، ما دفع الملك «ذو نواس» إلى اعتناق اليهودية، ربما تحدّياً لضغط دعاة النصرنة، بدعم من الأحباش، والذي كان من نتائجه ما وصف بمذبحة نجران، عندما خيّر نصارى الأخيرة - حسب المؤرخ الأزرقي بين التهوّد والفناء «فاختاروا القتل (الأخدود في سورة البروج)، ولم ينج منهم إلا رجل من سبأ (دوس بن ثعلبان)، لجأ إلى القيصر (البيزنطي)، مستنصراً به، إلا أن الأخير تذرّع ببعد المسافة عن اليمن، واعداً بأن يوعز بذلك إلى ملك الحبشة.

          وليس من قبيل المصادفة أن يستغيث السبئي بالبيزنطيين من دون الأحباش الأدنى إلى اليمن، إذ إن القيصر مثّل حينئذ المرجعية المسيحية في المنطقة، على الرغم من التمايز في المذهب عن الأحباش، إلا أن هؤلاء لم يبرحوا نفوذه السياسي، من دون أن يجد سبباً للحئول دون الإفادة من هذه الفرصة وتحريض النجاشي على غزو اليمن. وما لبثت حملة - حسب رواية ابن هشام - بلغ تعدادها نحو سبعين ألفا، ان اجتاحت هذه البلاد وتوغلت بغير صعوبة في أرجائها، لاسيما بعد أن آلت قيادتها إلى «أبرهة» الذي بدا أنه أقرب في سياسته إلى القيصر منه إلى النجاشي. فلم يتردد - حسب الأزرقي - في اتخاذ خطوات سريعة ترمي إلى تنظير اليمن، كان من تجلياتها بناء الكنيسة المعروفة بـ «القليس»، وظهر فيها من الفخامة والبهاء ما أسهب الإخباريون في وصفه. وقد جاءت تعبيراً عن مشروع القائد الحبشي الهادف إلى تحويل اليمن بؤرة للنصرنة في شبه الجزيرة العربية، بما يحمله ذلك من ملامح جديدة لتاريخها لن يقف عند حدود اليمن. وفي سبيل ذلك عمل على استقطاب القبائل العربية والتأثير على معتقداتها، بتحويل انتمائها الديني إلى القليس بدل الكعبة، المكوِّن الأساسي لقوة مكة التجارية.

          كان الحجاز إذاً، الهدف الثاني الأساسي في مشروع تنصير شبه الجزيرة وإخضاعها لمصلحة التحالف البيزنطي - الحبشي، ولكن دون ذلك كانت عقبة لم يستهن بها القائد الحبشي، مما تجلى في عديد الحملة التي حشدها لهذه الغاية، معزَّزة بالفيل الشهير، وبعض القبائل اليمنية مثل عك والأشعريين (مذجح) وخثعم على حدّ رواية ابن اسحق، وذلك في محاولة ترمي إلى ضعضعة الهالة الدينية لقريش، المستمدّة من «البيت» الذي أقسم أبرهة بعقيدته على هدمه، حسب الرواية عينها.

          ولم تكن مكة تملك من القوة العسكرية، سوى ما يُعبّر عنه بـ «الأحابيش» وقد وصفوا بذلك ربما نسبة إلى جبل عرف بهذا الاسم، وهم مجرّد حرس يُناط بهم الدفاع عن القوافل التجارية. بيد أن الموقف اتخذ معنى أعمق من المواجهة العسكرية، حين ظهر عبدالمطلب في هالته، ممسكاً بزمام اللحظة، ومتحدّياً بثقة القائد الحبشي، فقد أوفد هذا رسولاً إليه لموافاته في معسكره، حيث أطلق - حسب رواية الأزرقي - عبدالمطلب عبارته الشهيرة «إن للبيت ربّاً سيمنعه»، والتي شكّلت القوة الخفية في إنقاذ مكة من الاحتلال في ذلك العام (570) المعروف بعام الفيل. وليس من السهل التأريخ لتلك الحادثة التي حار في قراءتها الباحثون، وتباينت آراؤهم في اكتناه دلالاتها في السياق القرآني (سورة الفيل). فبينما نجد المرويات التاريخية، مؤسساً عليها أغلبية المؤرخين، تُسلّم بأن مشيئة الله تدخلت لإنقاذ «بيته»، فإن آخرين، من المستشرقين خصوصاً، اعتمدوا تفسيراً يُفضي إلى أن «الطير الأبابيل» أي السورة السالفة، ربما كانت وباءً فتك بالحملة وردّها على أعقابها.

          وليس ثمة شك أن «عام الفيل» من التواريخ الراسخة في الذاكرة العربية التي اتخذ عبدالمطلب مساحة بارزة فيها، بعد أن حاز شرف التصدّي لتلك المحنة وإنقاذ مكة «وبيتها» من الزوال، مجسّداً قيم الحنيفية الراكدة لوقت طويل. ولكن ذلك لم يترك، في حينه على الأقل، تأثيراً مباشراً في بنية المجتمع المكي، إذ إن وفاة عبدالمطلب، بعد تبديد ثروته نتيجة للغزو وما قيل عن سخائه الشهير، أدت إلى ظهور معادلة جديدة، طغت فيها عصبية المال على عصبية العشيرة، لتصبح الأولى مصدر القرار في السلطة التي مثّلها حينذاك ثلاثة من كبار التجار، ينتمون إلى بطون ثلاثة في قريش وهم: أبو سفيان (أمية)، أبو لهب (هاشم)، أبو جهل (مخزوم)، فيما ساد أبو طالب، وريث عبدالمطلب، فقيراً، ولم يكن له من السلطة ما يتعدى التأثير المعنوي.

          وقد انعكس ذلك خللاً على صيغة «التكافل»، بعد إفراغ «الإيلاف» من مضمونه الاجتماعي، واستمراره مجرّد أداة لتسهيل حركة التجارة، كما أصاب الخلل «دار الندوة» التي تعطّل دورها أو كاد، وباتت شبه عاجزة عن مواجهة الأزمات التي رهصت بها المرحلة بعد انكفاء حملة الأحباش.

          في هذه الأثناء كان البيزنطيون الذين صُدموا بفشل حملة الحبشة، يتابعون عن كثب أزمات المجتمع المكي، تلبية لهواجسهم في السيطرة المباشرة على حركة التجارة. وكان الدين ما توسّلوه هذه المرة لاختراق شبه الجزيرة، متوخّين تنصيرها بالطرق السلمية، يشجعهم على ذلك نجاح عمليات مماثلة في الشام (قبائل الأزد (غسان) وكلب ولخم وجذام وبهراء). ولعل البيزنطيين حينذاك وصلتهم أنباء عن تنصّر بعض نخب قريش، في سياق البحث عن حلول بديلة عن الوثنية، وكان بينهم رجل على علاقة وثيقة بالبيزنطيين هو، عثمان بن الحويرث (من أسد بن عبدالعزى)، فوجدوا ضالتهم فيه، في وقت كان هذا «يطمع في أن يملك قريشاً» على حد الرواية المنسوبة للزبيرين بكّار. وكان قد التقى القيصر الذي حمّله كتاباً «مختوماً في أسفله بالذهب»، آملاً في إقناع قومه بتنصيبه ملكاً عليهم، ومهدّداً باسم القيصر بأن رفضهم سيمنع عنهم الشام ويؤدي إلى قطع هذا المرفق الحيوي في حياتهم الاقتصادية، حسب الرواية السالفة.

          وكانت قريش التي عانت حينئذ الانقسام، قد أخذت بجدية تهديد القيصر، لاسيما بعد لجوئه إلى عرقلة تجارتها في الشام، ولكن ذلك لم يصل بها إلى حدّ الخضوع لإرادة القيصر، فواجهت متّحدة تلك المحنة، رافضة الوصاية البيزنطية بما عبّر عنه الأسود بن عبدالمطلب، بأن «قريشاً لقاح لا تُملك». ولم يكن في وسع القيصر في المقابل المضي طويلاً في استعدائها، إذ إن تجارتها ليست خاصة بها فقط، وإنما كانت حاجة ملحّة أيضاً للبيزنطيين، بدليل استمرار القوافل في رحلاتها الاعتيادية إلى الشام. كما أن القسطنطينية لم تكن خالية من المتاعب، بعد انهماكها في حرب قاسية على جبهة البلقان، مما صرفها عن الاهتمام وقتاً بسياستها الشرقية، ولم يطل الوقت حتى كانت الشام هدفاً للفرس، مستغلّين الفراغ في المنطقة، وبلغ بهم التحدّي للبيزنطيين، أنهم تجرأوا على انتزاع الصليب المقدس من كنيسة القيامة. وقد استفزّ ذلك المشاعر الصليبية في القسطنطينية، ما جعل بطاركتها يستنجدون بحاكم إفريقيا، القائد الشجاع هرقل، بعد تنصيبه إمبراطوراً لردّ الاعتبار إلى السيادة البيزنطية واستعادة الصليب المقدس من الفرس.

          وفي موازاة هذه المتغيرات، كانت مكة لاتزال تغرق في أزماتها، من اهتزاز منظومة «الإيلاف»، إلى تفكك حلف «المطيبين» الممسك بزمام سلطة المال، إلى غياب شبه كامل لحلف لعقه الدم (الأحلاف)، إلى عجز «دار الندوة» عن القيام بدورها الأمن والاجتماعي، إلى غير ذلك من مؤثرات سلبية، بدأت مع غزوة الأحباش ولم تنته مع الحرب الفارسية - البيزنطية في الشام بالقيام بحركة إصلاحية، تؤدي إلى تفعيل «دار الندوة» واستعادة دورها المرجعي، بما يضمن العدالة وتحصين التجارة، عصب الاقتصاد في مكة، وينتصف لكل مظلوم يفد عليها. التأم عدد من «الإصلاحيين» في دار عبدالله بن جدعان (من تيم)، وهو أحد حكّام قريش كما وصفه اليعقوبي. وقد صدر عن المنضوين في الاجتماع، من هاشم وأسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر، وثيقة أسّست لحلف ثالث (الفضول)، يستجيب لهواجس المرحلة، محدّداً المبادئ التي سوّغت قيامه وهي: «لا يُظلم بمكة أحد إلاً كنا جميعاً مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممّن ظلمه،شريفاً أو وضيعاً، منّا أو من غيرنا»، كما جاء في مروية المالكي، وما لبث هذا الحلف أن فرض نفسه، متحدياً جبهة التجار الكبار، حتى أن عتبة بن ربيعة (من أقطاب حلف المطيبين) قال فيه: «لو أن رجلاً وحده خرج من قومه لخرجتُ من بني عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول» حسب المروية السالفة.

          ولعل التزامن - فيما يراه المسعودي - بين حروب الفجار وحلف الفضول، ما يؤكد على أن الأخير لم يكن مجرد حركة آنية متأثرة بالصراع على النفوذ، لاسيما الاقتصادي، وإنما كان في رؤيته الإصلاحية مستلهماً قيم «الحنيفية»، ما جعله يمثّل محطّة جديدة في التواصل بين عقيدة إبراهيم وبين الإسلام، تفوق في تأثيرها منظومة الإيلاف ويوم الفيل. ففي ذلك الوقت الذي عانت مكة هيمنة الأقلية واحتكارها من بقايا حلف المطيبين،جسّد حلف الفضول آمالها بالتغيير، رائية في ظلّه إلى تحقيق العدالة والاستقرار، ما يتجلى في وصل المالكي لهذا الحلف، بأنه «كان أشرف حلف وأعظم بركة، وذلك أن الرجل من العرب أو غيرها من العجم كان يقدم مكة بسلعة فربما ظُلم ثمنها، وكان آخر من ظُلم بها رجل من بني زبيد». وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) حينئذ في نحو العشرين من عمره، مظهراً من سمو الخلق ونقاء البصيرة، ما أكسبه حضوراً بارزاً في المجتمع، لاسيما بعد الانخراط المبكر في مواجهة تحديات المرحلة وأخطارها.

          بيد أن أكثر ما لفت إليه في ذلك الحين، أنه وهو في هذه السّن، كان من مؤسسي حلف الفضول الذي قال فيه حسب السيرة النبوي لابن هشام: «شهدتُ مع عمومتي حلفاً في دار عبدالله بن جدعان، ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت».

          ويمكن القول إن حلف الفضول الذي كان أول الداعين إليه - حسب مروية المسعودي - الأسود بن عبدالمطلب، قبل أن يلتئم بمشاركة محمد (ص) في دار عبدالله بن جدعان، حليف بني هاشم، قد أسهم بصورة ما في إحياء دور هؤلاء، بعد أن أفل نجمهم أو كاد مع غياب عبدالمطلب، لاسيما أن ذلك اقترن بالدعوة إلى إحياء «دار الندوة» بمبادرة من أحد أبناء الأخير السالف الذكر. ولكن هذا الحلف من منظور أكثر شفافية، جسّد مرحلة انتقالية بين عصرين، تختصرها المسافة بين «الندوة» شبه البدوية، و«الدولة» الحضرية في الإسلام. وكان لايزال في الذاكرة يستعيده المسلمون، وكأنه من مأثورات زمانهم، وليس مما قبله، وربما لجأ بعضهم أحياناً إلى المطالبة بالاحتكام إليه، باعتباره مرجعية لم تفقد نفوذها المعنوي على الأقل.

 

المصدر مجلة العربي الكويتية / بقلم : إبراهيم بيضون  / العدد ( 611 ).