«الرحلة الحجازية» زيارة قديمة إلى الأرض المقدسة

الرحلة إلى الحجاز هي أشواق متجددة في قلب كل مسلم, قام بها الإنسان البسيط بالاحتفاء نفسه, الذي سعى به أكابر القوم. وهذه رحلة الخديو عباس حاكم مصر للأراضي المقدسة.

شوّقنا الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «في منزل الوحي» إلى زيارة السعودية عندما اتجه صباح الثلاثاء 25 فبراير سنة 1936 إلى محطة كوبري الليمون مسافراً إلى السويس، ليستقل الباخرة كوثر في طريقه لأداء فريضة الحج. «المسلمون تهفو قلوبهم جميعاً إلى منزل الوحي ويهزّهم الحنين إليه، يولون وجوههم شطره خمس مرات كل يوم أينما أقاموا الصلاة، وإلى البيت العتيق تهوي أفئدتهم رغبة في أداء فريضة الحج، وإلى قبر الرسول النبي العربي، يحثهم الشوق ابتغاء زيارته». «ص9 - ط7».

          وتزيد من أشواقنا الدكتورة بنت الشاطئ بعد أن أدت فريضة الحج سنة 1392هـ/ 1972م. حين رصدت في كتابها «أرض المعجزات ولقاء مع التاريخ» مشاعرها وأحاسيسها بقولها: «وتمضي الأعوام والقرون. وتتعاقب الأجيال والعصور، والتاريخ مشدود إلى حشود الحجيج في الموسم الدوري من السنة القمرية، يسعون إلى البيت العتيق محرمين متطهرين، خاشعين قانتين. قد تجرّدوا من كل زينة وجاه وزهو. وأمَّحت بينهم فروق الألوان والأجناس والعناصر وفوارق الطبقات والدرجات، واستوى الملوك والرعايا، واستوى الأمراء والدهماء، فليسوا جميعاً سوى عباد الله». «ص108 - ط2».

          فإلى رافد جديد ننعم برحلته، ونطلع على كتاب «الرحلة الحجازية» تأليف محمد لبيب البتنوني، وبلغت صفحاته 398 من القطع الكبير - ط2 سنة 1329هـ - الذي صحب الخديو عباس حلمي الثاني في رحلته لأداء فريضة الحج سنة 1327هـ/ 1910م.

بداية الرحلة

          وبدأت الرحلة الخديوية بتحرّك الموكب الرسمي صباح يوم 29 ذي القعدة سنة 1327هـ من سراي القبة إلى محطة مصر حتى السويس، حيث الباخرة المحروسة التي انطلقت فوصلت ميناء جدة ظهر يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة.

          ومساء اليوم ذاته امتطى الخديو جواده واتجه إلى مكة فوصل إلى باب الحرم الشريف «فجر يوم الخميس ثالث ذي الحجة وصلى الصبح مع الإمام المالكي، ثم طاف طواف القدوم، وخرج إلى السعي بين الصفا والمروة، حيث اصطف الحجاج على اختلاف أجناسهم، فيالها من ساعة كنت ترى فيها هذا المليك الفخيم ولا عرش يقله، ولا تاج يظله، وقد تجرّد عن فخامة الملك، بل عن مظاهر الدنيا بأجمعها، وسعى بين يدي الله سبعة أشواط».

          وأدى صلاة الجمعة في الحرم الشريف «وأي مكان في أطراف المسكونة لا يبلغ مسطحه ثمانية عشر ألف متر مربع مع أنه يحتشد إليه زمن الحج في وقت واحد نحو نصف مليون من النفوس، والكل يدعون الله بقلب واحد ولسان واحد».

          وصباح السبت خامس ذي الحجة، قام بزيارة المعلاة «المعلى»، وزيارة المحمل المصري. وبعد الغروب زار بيت الله الحرام، وفتح بابه حيث أوقد الشموع وصلى ركعتين في القبلة، ومثلهما إلى الجدار الشمالي وإلى الجدار الشرقي. وبعدها طاف حول الكعبة وزار مقام الخليل إبراهيم.

          ومساء الاثنين سابع ذي الحجة طاف بالكعبة واستعد للخروج إلى عرفات صباح يوم التروية حتى وصل منى، وبعد صلاة الصبح يوم 9 ذي الحجة قصد عرفات بعد أن دخل مسجد نمرة. وأفاض من عرفات، ثم سار إلى المزدلفة حيث قضى ليلة النحر. وبعد صلاة الصبح نزل عباس حلمي إلى منى ورمى جمرة العقبة وذبحت الذبائح، ونزل إلى مكة وصلى العيد في الحرم وطاف طواف الإفاضة وعاد بعد صلاة العصر إلى منى، وبعد صلاة عصر يوم 13 ذي الحجة نزل إلى مكة، وطاف طواف الوداع بعد صلاة العشاء يوم 14 ذي الحجة، وخرج إلى بحرة في منتصف الليل، وظل بها يوماً، وبعد صلاة العشاء اتجه إلى جدة.

          ومع ظهر يوم 28 ديسمبر سنة 1910 ركب المحروسة إلى الوجه «وهي ميناء على ساحل بلاد الحجاز على البحر الأحمر، وتبعد عن جدة شمالاً بمسافة 240 ميلاً»، فوصل جدة بعد يوم واتجه براً إلى محطة البدايع للذهاب إلى المدينة عبر سكة حديد الحجاز .

          وسار الخديو إلى وادي أبو عرايش، وبعد أربع ساعات ونصف الساعة وصل الرحبة. وبعد صلاة فجر أول يناير 1911 اتجه إلى أبي القزاز، وفي فجر يوم 2 يناير اتجه إلى مسيل نجد، ثم وادي النجد يوم 3 يناير حتى خشم سلع وبات به، وصباح 4 يناير صعد إلى شرفة النجد حتى رأس الحرة ثم وادي الدهيث، وصعد إلى وادي بوبلي.

إلى المدينة المنورة

          وفي صباح 6 يناير اتجه الركب إلى وادي حلاوة، ثم وادي العلا حتى وصل محطة البدايع، وفي المساء، اتجه بالقطار إلى المدينة المنورة، وتوقف القطار عند الغروب في محطة هدية حيث قطعت السيول جسر السكة عند محطة الجداعة، وبعد يومين تم الإصلاح وتحرّك القطار إلى الجداعة ووادي النعام ومحطة عنتر, حتى محطة الحفيرة وبات الجميع بها «ومازلنا حتى مررنا على القطع الثاني الذي أحدثته السيول في الجسر قبيل المدينة المنورة بنحو خمسة كيلومترات. وهناك شاهدنا قبة سيدنا حمزة - رضي الله عنه - ثم أهلة مآذن الحرم الشريف. وعندما أخذت الأعناق تتطاول، والأبصار تتجاول، في هاتيك الأرجاء، مستطلعة أنوار القبة الخضراء، حتى إذا تجلّت، لنا فخامتها امتلأت القلوب أفراحا، والصدور انشراحا، والعيون قرة، والأفئدة مسرة، وزاولت الأرواح أن تخرج من نظامها، وتطير من جسومها، إلى نور الأنوار، وسيد الأبرار، ومصدر سعادة العالمين في جميع الأمصار، لولا أن الجسوم كانت تتعلق بها، ناهضة بركابها، ضاربة أباط وابورها، مهللة، مكبّرة، داعية ملبية».

          ودخل القطار محطة المدينة، وبعد العصر قصد الخديو الحرم وصلى المغرب وقضى كل صلواته في المسجد، وقام بإنارة قناديل الحجرة الشريفة كل مساء وإطفائها صباحاً خلال مدة وجوده - لعطل محطة الكهرباء وقتها - وهنالك وقفت النفس بالمركز الذي ينبغي لها من تلقاء هذا الجلال وهذه العظمة، فكنت ترى الروح بمجموعه، والقلب بخشوعه، والطرف بدموعه، واللسان بخضوعه، ترفع عبارات السلام، إلى سدة سيد الأنام».

          وأشار البتنوني إلى نظافة المدينة وإلى مساجدها ومكتباتها «ويوجد بالمدينة في الجهة الشرقية حدائق كثيرة بالقرب من السور، وللمدينة ثمانية أبواب هي: الباب المجيدي، والباب الشامي، وباب الكوفة، وباب العنبرية، والباب المصري. وباب قوية، وباب العوالي، وباب الجمعة، ومناخ المدينة صحي جداً.

          وزار الخديو عباس حلمي وركبه البقيع ومسجد قباء، وصلى الجمعة في الحرم النبوي، وبعدها سافر إلى تبوك فجر يوم السبت 51 يناير سنة 1911، ومر بمحطة العلا ومدائن صالح ودخل ظهر يوم الأحد الكورنتينة «المحجر الصحي» في تبوك وبقي بها خمسة أيام.

          ومن تبوك وصل محطة ذات الحج، ثم محطة قطرانة، ومحطة الدرعا، ومحطة تل شهاب، ووادي نيسان، ثم محطة حيفا، ثم اتجه القطار إلى الميناء وركب الخديو الزورق ليركب المحروسة التي تحرّكت مساء الأحد 23 يناير سنة 1911 في طريقها إلى الإسكندرية التي حلت بها مساء الاثنين، وصباح الثلاثاء 25 يناير سنة 1911 وصل القاهرة حيث قصر القبة.

          وقد وفق البتنوني في حفز القارئ لمشاركته في خطواته وأيامه، فدقته وبراعته في تقديم كل صغيرة وكبيرة شاهدها من الكتاب دليل لكل راغب في أداء فريضة الحج في أيامه، وصورة رائعة لما كانت عليه زيارة الأماكن المقدسة في الماضي.

العرب قبل الإسلام

          ومن براعة المؤلف أنه لم يكتف بمتابعة الرحلة الخديوية، بل حفل كتابه بدراسة مطوّلة عن الشعوب العربية قبل الإسلام وبعده، ووصفه جزيرة العرب وعشائرها وحكوماتها. وأفاض عن جدة والطريق القديم والحديث من مصر إلى الحرمين، والحرم النبوي وحمام الحرم، والكعبة وشكلها، والكسوة والمحمل، والمسجد الأقصى، والآثار في منى، ونظام القوافل، والجمالة وطباعهم وملابسهم وألوانهم وشدوهم أثناء السير. «والحداء قديم جداً في العرب، والمؤرخون يقولون إن أول مَن حدا الجمال مضر بن ربيعة، وكان حسن الصوت، ويملك كثيراً من الإبل، وذهب بعضهم إلى أن توقيع الجمال في سيرها هو الباعث الأول على وزن الشعر فيهم، ولهم لكل سير من سير الجمال بحر مخصوص. فإذا سارت الهوينا فالرجز، وإذا أسرعت فالخبب. وقد كان الخلفاء يأمرون شعراءهم فيحدون لجمالهم. ومن ذلك أن عبدالملك بن مروان كان راكباً جملاً في سفر له «ولعله في حجه» وجمّاله يحدو بقوله:

يأيها البكر الذي أراكا
عليك سهل الأرض في ممشاكا
ويحك هل تعلم من علاكا
إن ابن مروان علا ذراكا
خليفة الله الذي امتطاكا
لم يعل بكر مثل ما علاكا

وضم الكتاب في طياته خمساً وعشرين صورة فوتوغرافية وأحد عشر رسماً وخريطة.

المصدر : مجلة العربي الكويتية -العدد 608 بقلم : بهاء الدين محمد علوان