مؤرخ ومدينة الفاسي... مؤرّخ مكَّة المكرّمة

دخلت مكة مجرى التاريخ قبل الإسلام عندما أصبحت مركزاً رئيساً على خطوط التجارة العالمية في القرن السابق على الإسلام.

مع بعثة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) دخلت المدينة في عالم آخر، واكتسبت أهمية مضاعفة عندما أصبحت عاصمة جموع المسلمين الدينية الأولى، ونظرة مقارنة بين موسم الحج قبل الإسلام وموسم حج بعده، تلخص كيف كانت المدينة وكيف أصبحت.

على رغم أهميتها ومكانتها النفيسة في قلب كل مسلم، لم تحظ المدينة المقدسة بمن يهتم بالتأريخ لها في القرون الإسلامية الأولى، فقد انصب اهتمام المؤرخين في الفترة الأولى على تسجيل سيرة الرسول وغزواته، وجاء الحديث عن مكة عرضاً أثناء الحديث عن سيرة الرسول فيها قبل البعث وبعده وحتى هجرته إلى المدينة.

لذلك لم يهتم المؤرخون بإفراد مؤلفات منفصلة للحديث عن مكة، باستثناء كتب الفضائل، ولم تظهر مدرسة مكية تاريخية تُعنى بتاريخ مكة في المقام الأول إلا في القرن الثامن الهجري، على يدي أحد أكبر مؤرخي الإسلام تقي الدين الفاسي الذي وضع أسس مدرسة تاريخية مكية وقفت شامخة إلى جوار مدارس القاهرة ودمشق التاريخية.

في الواقع سبق الفاسي في هذا المجال الأزرقي والفاكهي والزبير بن بكار، وجاء من بعده بني فهد وبني ظهيرة، لكنه يبقى أعظم السابقين واللاحقين جميعاً: إنه تقي الدين أبو الطيب محمد بن أحمد بن علي الفاسي الحسني المكي المالكي، ينتهي نسبه إلى الحسن بن على بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، ويتصل بالحسن عن طريق إدريس الأول بن عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط.

يُذكر أن إدريس مؤسس دولة الإدارسة في المغرب الأقصى (بين 172-303هـ) ومؤسس مدينة فاس الشهيرة في المغرب، التي إليها ينسب مؤرخنا الفاسي.

في سنة 679هـ خرج أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الفاسي، من المغرب مرتحلاً إلى مكة، التي دخلها سنة 686هـ، واهتم بأبنائه الثلاثة محمد وأحمد وعلي (جد الفاسي) وأنشأهم على محبة العلم، فأصبحوا في عداد علماء مكة، وأنجبوا بدورهم علماء كان من بينهم أحمد بن علي (والد الفاسي) أحد كبار المفتين في مكة، إضافة إلى ولايته القضاء نيابة، وتتلمذ عدد من كبار رموز الثقافة الإسلامية على يديه، وفي مقدمهم حافظ عصره ابن حجر العسقلاني صاحب كتاب «فتح الباري في شرح صحيح البخاري».

أصبحت أسرة الفاسي في القرن الثامن الهجري إحدى أكبر الأسر في مكة، ودعمت نفوذها العلمي بمصاهرة عائلات كبيرة في مكة، فأخت مؤرخنا تقي الدين الفاسي أم هاني تزوجت من أمير مكة السيد حسن بن عجلان.

طفولة

ولد تقي الدين محمد الفاسي في 20 ربيع الأول من سنة 775هـ، وأمضى فترة طفولته الأولى مع أمه في المدينة المنورة بعد طلاقها من أبيه. رجع إلى مكة شاباً يافعاً، فبدأ في تحصيل العلم من شيوخ المكيين والمجاورين، وفي سنة 789هـ أتم حفظ القرآن الكريم وصلى بالناس التراويح في المسجد الحرام.

ركز الفاسي على دراسة المذهب المالكي، فقهه وأصوله، حتى اتقنه وبرع فيه، ودرس كتب الحديث وسمع مروياته. كذلك أخذ من علوم العربية والنحو ما يستلزمه زاده، فكثر شيوخه حتى بلغوا 500 عالم كما ذكر الفاسي نفسه في معجم شيوخه.

ابتداءً من سنة 796هـ بدأ الفاسي رحلاته العلمية، فكان يتنقل بين المدينة المنورة وبيت المقدس والقاهرة ودمشق والإسكندرية، ودامت رحلتان من أصل أربع قام بها إلى مصر والشام ثلاث سنوات.

بدأ الفاسي بعد أن استكمل بناءه العلمي في التدريس في الحرم المكي سنة 800هـ، وبعد سبع سنوات تولى قضاء المالكية في مكة مدة عشر سنوات متتالية حتى سنة 817هـ، عندما عزل نتيجة التنافس والدسائس ضده، وكان هذا مصير معاصره ابن خلدون عندما عزل عن وظيفة القضاء في القاهرة.

كان التقي الفاسي شيخ مكيين وغير مكيين كثيرين، من بينهم تقي الدين ابن فهد والنجم ابن فهد والحسين بن الأهدل وغيرهم، فقد جلس للتدريس والإفتاء في الحرم المكي كما تولى مشيخة بعض المدارس كالغياثية والبنجالية.

تعددت مؤلفاته في الحديث والفقه والتصوف، وإن كانت جهوده في الكتابة التاريخية الأكثر بروزاً.

بعد أن فقد بصره تُوفي تقي الدين الفاسي في 3 شوال سنة 832هـ، ووصفه ابن حجر العسقلاني آنذاك بـ: {مفيد البلاد الحجازية وعالمها»، أما المقريزي مؤرخ مصر فقد نعاه قائلاً: {هو بحر علم وكنز فوائد... ولم يخلف في الحجاز مثله، رحمه الله».

في كتاباته

ضرب التقي الفاسي في مختلف العلوم الإسلامية من فقه وحديث، لكنه اهتم بالتأريخ كثيراً، فكتب في مجالات تاريخية متعددة، وأهم تراثه تأريخه لمكة المكرمة بأكثر من كتاب، من بينها: «تجريد ولاة مكة»، «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام»، و«العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين».

أما {شفاء الغرام} فأهم كتب الفاسي، والكتب الصادرة حول تاريخ مكة على حد سواء. يتألف من مقدمة و40 باباً وخاتمة، ويتحدث الفاسي في الأبواب الستة الأولى عن حكم بيع دور مكة المكرمة وتأجيرها، وأسماء مكة وألقابها، وحدود الحرم المكي وتوسعته، وفضل مكة وحرمتها.

أما أبواب الكتاب التالية فخصصها المؤرخ للكعبة المشرفة، فذكر تاريخ بنائها وأخبارها وتحديد الأماكن المباركة وتوضيح المناسك، ثم تحدث عن مدارس مكة وربطها وسقاياتها وآبارها وعيونها. وأخذ بعد ذلك في تتبع تاريخ مكة قبل البعثة النبوية، ثم أحداث البعثة حتى فتح مكة، وخصص جزءاً من حديثه لولاة مكة في الإسلام والحوادث الواقعة في ولاية كل أمير على مكة. واختتم الكتاب بذكر أمطار مكة وسيولها، وتناول الأصنام في مكة قبل الإسلام.

بعد أن أتم الفاسي {شفاء الغرام} أصدر مختصرات كثيرة له من بينها: «تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام»، {تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام»، و«الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة».

أما «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» فأكبر كتب الفاسي التاريخية وأكثرها قيمة، ترجم فيه الفاسي للمكيين منذ بداية تاريخ مكة المعروف حتى عصره في القرن الثامن الهجري. ويصرح في المقدمة بالسبب الداعي لتأليفه قائلاً: «تشوقت نفسي كثيراً إلى معرفة تراجم الأعيان من أهل مكة، وغيرهم ممن سكنها مدة سنين أو مات فيها، وتراجم ولاة مكة وقضاتها وخطبائها وأيمتها(أئمتها) ومؤذنيها من أهلها وغيرهم، وتراجم من وسع المسجد الحرام أو عمره أو عمر شيئاً منه، أو من الأماكن الشريفة التي ينبغي زيارتها في مكة وحرمها، أو عمل شيئاً من المآثر الحسنة الكائنة في مكة وحرمها كالمدارس والربط والسقايات والبرك والآبار والعيون والمطاهر وغير ذلك من مآثر».

بدأ التقي الفاسي كتاب «العقد الثمين» بتعريف موجز لمكة المكرمة، ثم أتبعه بسيرة مختصرة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، مورداً تراجم المكيين، التي بدأها بالمحمدين على ترتيب حروف الهجاء، مختتماً الكتاب بتراجم النساء.

واختصر الفاسي {العقد الثمين} في كتاب سماه «عجالة القرى في تاريخ أم القرى».

ويتضح من خطة الفاسي في كتابيه «العقد الثمين» و «شفاء الغرام»، أنه أراد أن يضع تاريخاً كاملاً لمكة المكرمة، يضم عمرانها وتاريخها البشري والثقافي، أولهما اختص بتطور العمران في مكة، وثانيهما اختص بأهل مكة والحياة العامة بها. وهذا ما نجح فيه الفاسي إلى أبعد الحدود، فكان كتاباه أصدق صورة لتاريخ مكة في القرون التسعة الأولى من الهجرة.

المصدر / جريدة الجريدة بقلم حسن حافظ - القاهرة