ملامح من مدينة جدة في القرن السادس الهجري من خلال عدسة ذاكرة الرحالة ابن جبير 2/2
جدة بوابة الحرمين الشريفين، عروس البحر الأحمر، والميناء الرئيس للملكة العربية السعودية، هذا الكيان الكبير الذي أسسه ووحّد أرجائه وأمنّ طرقه جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله.
وكانت جدة منذ القدم نقطة عبور إلى المدن المختلفة الواقعة على البحر الأحمر والذي عُرِفَ قديمًا ببحر جدة. ولقد ازدادت أهمية هذا الميناء ذو الموقع الاستراتيجي بعد أشراق نور الإسلام وخاصة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما أمر بأن تعود جدة ميناءً لمكة المكرمة بدلاً من الشعيبة فأصبحت جدة المدخل الرئيس لمكة المكرمة يقصدها من نوى الحج أو العمرة.
ولقد اهتم الرحاله المسلمون الذين وفدوا اليها في طريقهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة بالتحدث عن أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وبوصفها ووصف مبانيها ومينائها ومساجدها وما إلى ذلك من مآثر هذه المدينة العريقة.
وقد زار جدة وكتب عنها عدد من هؤلاء الرحالة العرب والمسلمين وغيرهم، منهم الرحالة العربي الأندلسي الشهير ابن جبير، والرحالة العربي ابن المجاور، وعميد رحالة العالم الرحالة الشهير ابن بطوطة، وغيرهم، وقام كل من هؤلاء الرحالة بوصف هذه المدينة ووصف أهلها، ويشكر لهم ذلك حيث أوجدوا لنا نوافذ نطل منها على جدة في تلك الأزمنة. واليوم نسترجع بعض ما ذكره ابن جبير عن جدة عندما زارها في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وهو في طريقه لأداء مناسك الحج .
الرحالة ابن جبير:
ابن جبير هو محمد بن أحمد الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي وجيه من وجهاء الأندلس وعالم من علمائها كان فقيهًا وأديبًا وعالم حديث وصفه لسان الدين ابن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” بأنه كان أديبًا بارعًا وشاعرًا مجيدًا. وقد اشتهر ابن جبير كرحالة عندما دون رحلاته في كتاب عرف بـ”رحلة ابن جبير” فأصبح كتابًا متداولاً مشهورًا ونقل كثير من الرحالة عنه واستفاد الكثيرون منه.
ولد محمد ابن احمد الكناني (ابن جبير) في بلنسيه بالأندلس عام 539هـ الموافق 1114م وتوفي في الإسكندرية عام 614هـ الموافق 1217م ودفن فيها – رحمه الله.
وقد استهل ابن جبير رحلته الأساسية التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات بدئًا من يوم الاثنين التاسع عشر من شهر شوال عام 578هـ الموافق الثالث عشر من فبراير عام 1182م وانتهت الرحلة في الثاني والعشرين من محرم عام 581هـ الموافق الخامس والعشرين من أبريل عام 1185م.
وقد كان وصفه لما شاهد في أسفاره وصفًا دقيقًا صور فيه ما شاهده من العجائب والمباني والمساجد وغيرها كما وصف أدائه لفريضة الحج وصفًا مستفيضًا ويشعر القاريء أن زيارته لمكة المكرمة والمدينة المنورة كانت أهم ما تحدث عنه ابن جبير في رحلته. كما وصف ما كان يلقاه المسافرون في ذلك الزمان من صعاب في السفر ومن أهوال في البحر وفي البر. وتحدث ابن جبير عن الحروب الصليبية وعن حسن العلاقة بين مسلمي ومسيحي العرب آنذاك وقد ساعده في كل ذلك دقة ملاحظته وغزارة علمه.
كما كان ابن جبير شديد الإعجاب بشخصية القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي ومحبًا له فتحدث عن عدله وخلقه الرفيع. ويلاحظ القارئ أيضًا تدين ابن جبير من خلال كتاباته. والمتبع لرحلة ابن جبير يلاحظ أنه بدئها من غرناطة ببلاد الأندلس متجهًا للأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج فعبر البحر الأبيض المتوسط حتى وصل الاسكندرية في الثاني من ذي الحجة عام 578هـ ، ومنها توجه إلى القاهرة، ثم إلى الصعيد عن طريق نهر النيل. وبعد ثمانية عشر يومًا في مياهه وصل ابن جبير إلى مدينة قوص في الرابع والعشرين من محرم عام 579هـ التاسع عشر من مايو 1183م ثم من مدينة قوص قصد ميناء عيزاب على البحر الأحمر ووصلها يوم السبت الثاني من ربيع الأول 579هـ ومكث فيها ثلاث وعشرين يومًا اعتبرها نوعًا من أنواع العذاب حيث قال عن تلك الفترة : “احتسبها عند الله لشظف العيش وسوء الحال واختلال الصحة”.
وكان من الواضح أن مكوثه طيلة هذا الوقت في عيزاب يعكس اشكالية الانتقال عبر هذا الطريق البحري إلى جدة وما كان يواجه الحجاج من صعاب. ولذلك تحول الناس عن هذا المسار عندما تمكن المسلمون من استعادة الطريق البري عبر سيناء من الصليبين.
وفي كل الأحوال فإن تجربة ابن جبير للأبحار من البحر الأحمر لم تكن جيدة حيث واجه فيها صعوبات بسبب التقلبات الجوية المعاكسة التي لم تستطع مراكب عيزاب التغلب عليها مما أخر وصولهم إلى البر كما أشار.
وأول أرض وطأها بعد ذلك هي جزيرة أسماها عائقة السفن تحيط بها الشعاب المرجانية، لعلها المنطقة التي تعرف في الوقت الحاضر بجزيرة أبوطير. وأشار ابن جبير إلى أنهم مكثوا فيها ليلتين حتى أصبحت الريح مواتية فأقلعوا منها وساروا حتى رسوا في خليج أبحر. وفي اليوم التالي توجهوا إلى مدينة جدة التي يصف ابن جبير طريق الدخول إلى مينائها بقوله: “ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا ما صنعه هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة أثناءها أمرًا ضخمًا يدخلونها على مضايق ويصرفونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد. وياتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه”.
دخل ابن جبير مدينة جدة في ظهر يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر سنة 579هـ الموافق السادس والعشرون من شهر يوليو سنة 1183م وكانت إقامته فيها في دار القائد علي والذي كان واليًا عليها من قبل أمير مكة المكرمة حيث نزل في أحد الأخصاص التي تشبه الغرف، وتبنى في أعلى بيوت جدة، وهذا يشير إلى أن أعيان مدينة جدة كانوا يكرون أجزاء من بيوتهم.. يصف ابن جبير الحالة العمرانية لمدينة جدة بأن أطلق عليها لفظ (القرية) كمصطلح عمراني. رغم أن المصادر التاريخية السابقة لعصره تعتبرها (مدينة) من حيث تكوينها العمراني. وهذا يدل على أن مدينة جدة شهدت تراجعًا عمرانيًا وهو ما تنبه إليه ابن جبير مشيرًا إلى آثار باقية في جدة تدل على كبرها واحتوائها على مظاهر عمرانية متنوعة وفي ذلك يقول:
“... وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة. وأثر سورها المحدّق بها باق إلى اليوم”.
إن هذا التراجع العمراني لابد وأنه كان يعكس الأزمة الاقتصادية التي كانت سائدة في جدة ذلك الوقت. ويصف ابن جبير هذه الأزمة بقوله عن سكان جدة ابان زيارته لها “بأنهم فقراء محتاجون يمتهنون أي مهنة”. ويبدو أن جل هذه المهن كانت مرتبطة بخدمة إعداد محدودة من الحجيج حيث قال: “فمن يملك الجمال منهم يؤجرها على هؤلاء الحجاج. أما بقية السكان فيبيعون القليل من الطعام والماء”.
ويلاحظ أن ابن جبير لم يشر إلى وجود نشاط تجاري في جدة. رغم أنه لم يغفل عن ذكره في مدن أخرى. مما قد يدل أيضًا على انعدامه فيها في ذلك الوقت. وهذا بخلاف ما ورد عن هذه المدينة في عصور سابقة.
إن هذه الظاهرة التي أصبحت جدة تعاني منها تعكس ما سبق أن ذكرناه عن تحول طرق الحج والتجارة بسبب الحروب الصليبية مما افقدها خصائصها التجارية كمحطة تموين للسفن التجارية. بيد أن هذه الظاهرة لم تلبث أن تعود بعد ذلك إلى جدة وخاصة في العصر المملوكي لتصبح المدينة التجارية الرئيسة على البحر الأحمر.
لم يغب عن بال ابن جبير أن يشير إلى أهم المعالم المعمارية والتاريخية كعادته عندما يصف أي مدينة يزورها فذكر أن بها مسجدًا مباركًا ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولعله المسجد الذي يعرف في وقتنا الحاضر بمسجد (الشافعي) كما ذكر مسجدًا آخر اختلف في نسبته فمن قائل بأنه يعود لزمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهناك من قال بأنه يعود لزمن الخليفة العباسي هارون الرشيد. كذلك يشير – وإن كان بصيغة الاحتمال- إلى وجود قبر في جدة ينسب إلى حواء أم ولد آدم عليه السلام، كما أنه وصف بيوت المدينة فذكر أن أكثر بيوتها أخصاص. أما الفنادق فهي مبنية بالحجارة واللبن ويعلوها غرف مبنية من الأخصاص تفتح على سطوح يبيت فيه ساكني الفنادق تجنبًا لأذى الحر في الغرف. ويفهم من كلام ابن جبير السابق عن دار القائد علي أن هذا النمط من العمارة – بناء الأخصاص في أعلى المبنى – كان متبعًا في البيوت القليلة المبنية من الحجارة.
ومن الغريب أن مدينة كجدة التي ارتبط تاريخها بقلة المياه وندرتها، يقول عنها ابن جبير بان بها جباب كثيرة بعضها محفورة في الصخر. وهذا المصطلح معناه البئر الكثيرة الماء.
وقد يرى البعض ان هذا الأمر لا يستقيم مع شح المياه وقلتها في جدة والراجح أن هذه الجباب التي ذكرها ابن جبير حفرت (نقرت) في الصخر مع تكسيتها ببناء حافظ للماء إذا هي حفرت في الأرض بهدف تجميع مياه الأمطار النادرة الهطول فيها للمساعدة في تأمين جانب من حاجة جدة للماء.
غادر ابن جبير جدة في مساء يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة 579هـ الموافق اليوم الثاني من شهر أغسطس سنة 1183م متجهًا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ودخلها في فجر الخميس الثالث عشر من ربيع الثاني 579هـ الموافق الرابع من أغسطس 1183م وأقام بها ما يزيد على ثمانية أشهر ثم ذهب قاصدًا المدينة المنورة ودخلها على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يوم الاثنين الثالث من محرم عام 58.هـ . وبعد أن تشرف بزيارة سيد البشر عليه الصلاة والسلام وصف شعوره بقوله: “ولم يبق لنا أمل من أمال وجهتنا المباركة ولا وطر إلا وقد قضيناه ولا غرض من أغراضنا المأمولة إلا وبلغناه”. وبهذا فكأن لسان حاله يقول أنه لم يعد لديه طموح إلا في العودة للوطن. وكانت مدة بقائه بالمدينة المنورة خمسة أيام وتوجه بعدها عن طريق البر إلى العراق حيث كان قد عزم على ألا يعود في رحلة بحرية من البحر الأحمر إلا أن يحال بينه وبين الطرق الأخرى. بعكس أهل جدة الذين ألفوا بحرها وهواءه المثقل بالبخار خاصة في الصيف والذين جعلوا من مدينتهم مركز تجارة هذا البحر الأحمر وعروسه التي لا ينطفئ وهجها حتى في الليل.
هذه جدة كما وصفها الرحالة المشهور ابن جبير كما كانت في عهده قبل ما يقرب من الف عام، كانت وما زاالت مدينة هامة تستهوي كل من زارها وسكنها ايام فتسكن فؤاده وتعتبره من اهلها مرحبة به. واليوم قد أصبحت جدة كما هو معروف مدينة عالمية عصرية تضاهي أكبر مدن العالم وأهمها.
جريدة المدينة بقلم عدنان عبدالبديع اليافي
0 تعليقات