إطلالة على مدينة جدة في القرن السادس الهجري بعدسة ذاكرة ابن جبير 1/2

1 – خط سير رحلة ابن جبير إلى جدة في القرن السادس الهجري:
تدين جدة للرحالة حفاظهم على جزء كبير من تاريخها، ولولاهم لفقد الشيء الكثير من تراث هذه المدينة العريقة. وقد بدأ قدوم أشهر الرحالة العرب والمسلمين إلى جدة في طريقهم إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج والعمرة مبكرًا. ففي القرن الرابع الهجري قدم الرحالة المقدسي وزار جدة وهو في طريقه إلى مكة المكرمة ووصف جدة وتحدث عن مسجدها وعن سورها وعن أهلها وغير ذلك. وفي القرن الخامس الهجري أتى الرحالة ناصر خسروا علوي على جدة وترك لنا توصيفًا دقيقًا لها في ذلك الزمن، وقال: إن سكانها خمسة آلاف نسمة. وقال عن أسواق جدة إنها نظيفة وتحدث عن سورها وأبوابها.

وفي القرن السادس الهجري زار جدة الرحالة العربي الشهير ابن جبير ومكث بجدة زمنًا قبل أن يذهب إلى مكة المكرمة ومكث فيها عدة أيام وكان برفقة ابن جبير زميل سفره أحمد القضاعي.

وعن ما ذكره ابن جبير عن جدة تحدث مؤرخها الشيخ عبدالقدوس الأنصاري- رحمه الله- (وكان شديد الإعجاب بابن جبير) قائلاً: “في القرن السادس الهجري حج الرحالة العربي الأندلسي: محمد بن أحمد بن جبير، فأتانا بصورة أدبية حساسة لمشاهداته وانطباعاته عن جدة، وكان هذا الوصف مخالفًا لما وصفها به المؤرخون والرحالة السابقون، إنه وصف أسدل عليه جلبابًا قاتمًا سميكًا من التأخر العمراني والاجتماعي “فعماراتها الفخمة استحال أكثرها إلى بيوت من (جصاص) وأهلها الأثرياء المترفين فيما مضى أصبحوا في شظف وبؤس من المعيشة يذيب الحجارة أسى، والمستوى الاجتماعي العام منخفض كثيرًا.. فبعد التجارة المزدهرة، والنعيم المقيم رضي أهلها بأن يقيموا أنفسهم في كل مهنة لتحصيل لقمة العيش، فكان منهم من يكري الجِمال، ومنهم من يبيع البن أو الماء للحجاج، أو يحتطب من ضواحي البلد ويبيع مما جمع”.

ويعتقد الأنصاري أن هذا الانكماش الاقتصادي أضطر الكثيرين من أهل جدة للنزوح منها إلى أوطان جديدة أحسن حالاً وأرفع مستوى”.

إلا أن هذا الوصف السابق لا يتفق مع وصف الرحالة الإدريسي الذي جاء إلى جدة في نفس القرن بفارق حوالي ثلاثين عامًا عن تاريخ زيارة ابن جبير لها فبينما يصف ابن جبير جدة بأنها “قرية” بها آثار تدل على أنها كانت مدينة كبيرة يقول الإدريسي عن جدة: إنها مدينة كبيرة أهلها مياسير ،وبها مراكب عديدة، كما أن وصف ابن جبير لفنادق جدة لا يتوافق في نظر البعض مع كونها قرية. لذا فإن بعض المحللين يرون أن ابن جبير في حديثه عن جدة إنما كان يقصد بعض ضواحيها وليس المدينة نفسها.

وقبل الحديث عن زيارة ابن جبير لهذه المدينة العريقة فإننا سنلقي نظرة على خط سير رحلته في طريقه إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة بعد ترجمة مختصرة لصاحب هذه الرحلة الشهيرة التي تحدث فيها ابن جبير عن جدة بإسهاب.

الرحالة ابن جبير:
هو أبو الحسين محمد بن جبير الكناني، الأندلسي، البلنسي، الشاطبي، ولد في مدينة بلنسيه في سنة 539هـ - 1144م وتوفى سنة 614هـ - 1217هـ بعد أن بلغ من العمر خمسة وسبعين سنة. وكان ابن جبير أحد علماء الأندلس في الفقه والحديث، وسمع العلوم من أبيه، وتعلّم القرآن الكريم عن ابن أبي العيش. وأخذ من الأدب بنصيب وافر، فبرع في الأدب، وأجاد قرض الشعر، وكان يتحلّى بمكارم الأخلاق.

وبعد أن قام ابن جبير بثلاث رحلات دامت إحداها ثلاث سنوات وزار خلالها مدينة جدة، ألّف كتابه الموسوم بـ”رحلة ابن جبير” وضمنه مشاهداته لكل ما مرّ به من المدن، وما رأى فيها من العجائب، وسمعه من الغرائب. وثبت فيه الكثير من الوقائع، وتكلّم عن أحوال الناس الاجتماعية وشؤونهم الأخرى، فأبرز أهم المساجد والمشاهد، وتحدث عن مناسك الحج وأعماله، وذكر مجالس العلماء. وتحدث عن المشافي ووصف المعابد والقلاع، وبين ما يتعرّض له ركاب البحر من عواصف وأهوال. وتحدث عن الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين، كما أبرز العلاقات الطيبة بينهم خلال تلك الحروب بشكل دلّ على سعة إطلاعه وعلمه وحكمته. وكان دقيق الملاحظة في كل ذلك. ويعتبر كتابه “رحلة ابن جبير” مرجعًا هامًا للمؤرخين، ودليلاً للجغرافيين.

خط سير رحلة ابن جبير:
وقد بدأت رحلته في شوال سنة 578هـ - 1182م وقد وثق ابن جبير ذلك بقوله: “ابتدأ بتقيدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشهر شوال سنة ثمان وسبعين وخمسمئة على متن البحر بمقابلة جبل شُليْر عرفنا الله السلامة بمنه”. ويكمل ابن جبير قائلاً: “وكان انفصال أحمد بن حسان (القضاعي) ومحمد بن جبير من غرناطة، حرسها الله، للنية المباركة، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبراير الأعجمي. وكان الاجتياز على جيان (جبل بالأندلس) لقضاء بعض الأسباب، ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الأثنين التاسع عشر لشهر شوال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبراير المذكور أيضًا”.

وقد مر ابن جبير بجزيرة سردينيا الإيطالية وحدث له ولصحبه أهوال في البحر تحدث عنها بتفصيل دقيق ووصفها وصفًا شيقًا يجعل القارئ يحس كأنه يصحبهم في ذلك المركب وقال إنهم كانوا في حال لا يميزون الشرق من الغرب وأرسوا قاربهم في مرسى إيطالي قال عنه إنه معروف وأن اسمه (قوسمركه)، جددوا فيه مؤن القارب من ماء وحطب وزاد وغيره. وذكر أن أحد المسلمين من صحبه على القارب وكان يتحدث لغة (الروم) هبط إلى المدينة وأعلمهم عند عودته أنه رأى “جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق”.

وذكر ابن جبير أنهم فارقوا برّ ساردينيا ليلة الثلاثاء الثامن عشر من ذي القعدة، الخامس عشر من مارس، ثم قال: إنهم في ليلة الأربعاء بعدها عصفت عليهم ريح “هال لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوة، كأنه شأبيب سهام، فعظم الخطب، واشتد الكرب، وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال الثائرة، فبقينا على تلك الحال الليل كله واليأس قد بلغ منا مبلغه، وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا، فجاء النهار، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة، بما هو أشد هولاً وأعظم كربًا، واشتدت الريح والمطر عصوفًا، حتى لم يثبت معها شراع، فلجأ إلى استعمال الشرع الصغار”. فأخذت الريح أحدها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها، وهي المعروفة عندهم بالقرية، فحينئذ تمكن اليأس من النفوس وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء إلى الله عز وجل. وأقمنا على تلك الحال النهار كله، فلما جن الليل فترت الحال بعض فتور، وسرنا في هذه الحال كلها بريح الصواري سيرًا سريعًا.

ويكمل ابن جبير وصفه الدقيق لأهوال البحر قائلاً: “وفي ذلك اليوم حاذينا برّ جزيرة صقلية. وبتنا تلك الليلة التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور، مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح نشر الله رحمته، واقشعت السحاب، وطاب الهواء، وأضاءت الشمس، وأخذ السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس، وذهب اليأس، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته، حمدًا يكون كفاء لمنته ونعمته”.

واستمر ابن جبير وصحبه في رحلتهم حتى وصلوا الإسكندرية التي نزلوها يوم الأحد الأول من ذي الحجة من سنة 587هـ وذهبوا منها إلى القاهرة التي تحدث عنها بإسهاب.

ومن القاهرة توجه ابن جبير وصحبه إلى “قوص” ثم “أسيوط” ومنها إلى “أخميم” وهي إحدى مدن صعيد مصر، ثم إلى بلنيه ومنها إلى “قنا”، مرورًا بـ”المبرز” وبعدها إلى “امتان” ومنها إلى “مجاج”، حيث تزودوا بالماء في طريقهم إلى “عيذاب” التي قال إنها مدينة على ساحل بحر جدة ولم يعجب بعيذاب أبدًا بل قال عن المدة التي قضاها فيها وكانت ثلاثة وعشرين يوما إنها محتسبة عند الله عزوجل، “لشظف العيش وسوء الحال واختلال الصحة لعدم الأغذية الموافقة”. وقال: إن عيذاب بلد كل شيء فيه مجلوب حتى الماء. وفي البحر الأحمر في طريق رحلتهم إلى جدة من عيذاب قابلوا أهوالاً ذكرها قائلاً: “وأقمنا ليلتنا تلك في هول يؤذن باليأس، وأرانا بحر فرعون (البحر الأحمر) بعض أهواله الموصوفة، إلى أن أتى الله بالفرج مقترنًا مع الصباح. وفي يوم الخميس جاءتهم ريح “رخاء طيبة” فأرسوا في العشاء في جزيرة صغيرة قرب برّ جدة قال إن اسمها “عائقة السفن”. ثم منها أبحروا عشى يوم الأحد وأرسوا بمرسى قال عنه إنه :يعرف بـ“أبحر” وهو على بعض يوم من جدة، وهو من أعجب المراسي وصفًا، وذلك أن خليجًا من البحر يدخل إلى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسو الجلاب “القوارب” منه في قرارة مكينة “ومستورة” ”هادئة”.

ومن يعرف أبحر اليوم مثل أهل جدة يرى دقة هذا الوصف لأبحر. ثم وصف ابن جبير رحلتهم من أبحر إلى جدة قائلاً: “فلما كان سحر يوم الاثنين بعد اقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة، والله الميسر لا رب سواه.

فلما جنى الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منّا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعيدة بيننا وبين دخول مرساها، ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة (القارب) أثناءها أمرًا ضخمًا، يدخلونها على مضايق ويصرفونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد، ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه.

هكذا كان خط رحلة سير ابن جبير وصحبه من غرناطة إلى جدة التي وصلوها يوم الرابع عشر من شهر ربيع الاخر سنة (579هـ) الموافق للسادس والعشرين من شهر يوليو سنة 1183 بعد أن قضوا أكثر من ثمانية أشهر في السفر وجابهوا الأهوال والعواصف والأمواج والأنواء في البحار المختلفة ومكثوا فيها حوالى ثمانية وعشرين يوما توجهوا بعدها إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة وفريضة الحج.

فأين نحن منهم اليوم، إذ يقطع المسافر رحلة مثل هذه في عدة ساعات على طائرة فارهة تسير بسرعة حوالى ستمائة كيلو متر في الساعة أو تزيد ويقوم على خدمته خلالها طاقم من المضيفين يقدمون له الأكل والشراب وما يحتاج إليه.

ولقد تحدث ابن جبير عن جدة وانطباعاته عنها ووصفها ووصف مساكنها وأهلها، ولكن هذا مجال بحث آخر .. إن شاء الله.

جريدة المدينة بقلم  عدنان عبدالبديع اليافي