مسجد الآبنوس أقدم مساجد جدة

تقع مدينة جدة على الساحل الشرقي من البحر الأحمر بين دائري عرض 25-21 ، 45-21 شمالاً ، وخطي طول 5-39 ، 2.-39 شرقًا في المنطقة الغربية من وطننا الغالي، المملكة العربية السعودية، هذا الكيان الكبير الذي وحّده وأمّن طرقه المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-. وهي مدينة موغلة في القدم، يقول عنها الباحث محمد صادق دياب: «إنه لو ثبت علميًّا أنها كانت يومًا مسرحًا لحياة أم البشر (حواء)، أو حضنًا لرفاتها فإن ذلك سيمنحها الأسبقية في الاستيطان البشري على غيرها من المناطق» . لكن صعوبة إثبات هذا القول يقود إلى البحث عن دلائل أخرى للتأكيد على قِدم جدة. وتأتي الاكتشافات الأثرية في مقدمة هذه الدلائل.
وتوجد دلائل مادية تذهب بتاريخ الاستيطان البشري في جدة إلى عهود غائرة في القِدم، منها ما عُثر عليه في منطقة أم حبلين شمال شرق جدة من نقوش صخرية ضمت رسومًا لحيوانات أليفة ومتوحشة إلى جانب عدد من الرسوم الآدمية. وعُثر في موضع آخر قرب منطقة «بريمان» بالقرب من الموقع الأسبق على نقوش صخرية وكتبات ثمودية. يقول الدياب إن «هذين الموقعين ينتميان إلى ما بعد العصر الحجري الحديث».
وفي موقع ثالث وهو موقع «أبحر» شمال غرب جدة، عُثر على نقوش صخرية تحوي رسومًا لأبقار ذات قرون طويلة، ووعول ذات قرون معكوفة، ورسومًا لأشخاص. تذكر بعض المصادر أن هذا الموقع «أقدم عمرًا من الموقعين السابقين أم حبلين وبريمان». كما يقول المؤرخ العلّامة عبدالقدوس الأنصاري في كتابه موسوعة جدة إنه ورد في نقش ثمودي عثر عليه في «وادي بويب» على بعد 15كيلومترًا شمال شرق جدة «تضرع يطلب فيه ناقشه الثمودي من الله عز وجل أن يمنحه الكمال والصحة والسلام». يقول الأنصاري: إن هذا الناقش الثمودي الذي يبدو أن اسمه هو «ساكت بن يعشن، كان له صاحب اسمه جمأت (جمعة) أصيب بالحمّى.
ويصل الأنصاري -رحمه الله- من هذا إلى عدة استنتاجات منها:
أولاً: أن الثموديين نزلوا جدة قبل قضاعة.
ثانيًا: أن سكناهم بمنطقة جدة التي منها وادي بويب، قد تكون سكنى استقرار وإقامة دائمة.
ثالثًا: أن الحمّى التي كانت معروفة قديمًا في جدة قد كانت تنتابهم، ومنهم جمأت «جمعة» الذي ذكر الثمودي كاتب النقش أنه أصيب بها.
كما أن من دلائل قدم جدة ما ذكره الأنصاري من أن “الأسكندر” المقدوني جاء مكة في حياة النضر بن كنانة ثم قطع البحر من جدة يؤم بلاد المغرب، على ما ذكره أحمد بن داود الدينوري وهو مؤرخ وصاحب معاجم وفلكي وعالم نباتي.
ويستدل الأنصاري كذلك على قدم جدة بما ذكره ياقوت الحموي من أن: (جدة) أحد أحفاد قضاعة وُلد في جدة، فسمّي باسمها. يقول الأنصاري إن هذا «دعم القول بقدم جدة فإنها كانت معروفة في الجاهلية ومشهورة حتى أن أحد أعرابها سمّي باسمها حين وُلد فيها» كما يقول : «إن هذا عكس ما حدث في (يثرب) المدينة المنورة ، فقد سمّيت هذه المدينة باسم مَن سكنها أو بناها وهو يثرب العميلقي أو العبيلي». عن هذا يقول الأنصاري إن «كلا الاستعمالين جائز ووارد في لغة العرب، ويدعى كلاهما بالمجاز المرسل، فيصح أن يُسمّى المحل باسم الحال (بتشديد اللام) كما حدث في جدة هنا، والحال (بتشديد اللام) على المحل، كما حدث في اسم «يثرب» الذي سميت به المدينة، أخذًا من اسم الحال فيها وهو الرجل «يثرب».
ومن دلائل قدم جدة ما ذكره ابن جبير عندما أتى إلى جدة في القرن السادس الهجري فقال إنه رأى آثارًا تدل على أنها كانت «مدينة قديمة» ، ثم أردف ذلك بقوله : «بخارج هذه البلدة مصانع قديمه تدل على قدم اختطاطها».
وجدة كانت معروفة لدى العرب عامه، والمكيين خاصة منذ قبل الإسلام، وكانت مخزنًا لمكة ومرفأ مساعدًا لها إلى جانب الشعيبة ومستودعًا تجاريًّا لقريش منذ قبل الإسلام، فحينما اسر المسلمون في بدر نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوفل أن يفدي نفسه برماحه التي بجدة، وكانت ألف رمح ففعل.
وذُكر أن الحارث بن نوفل بن الحارث هو أول أمير استعمل على جدة في الإسلام، وتتباين الأقوال حول زمن تلك الإمارة، فمنهم من يرجعها الى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يردها إلى عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وعن معرفة قريش بجدة، يقول مؤرخ جدة، أحمد بن محمد الحضراوي المتوفى سنة 1327هـ في كتابه الموسوم (الجواهر المعدة في فضائل جدة) والذي حققه الدكتور علي عمر، أن بعضهم قال: «إن جدة هي قديمه على حالها من قبل النبوة ساحل مكة، واحتج على ذلك بعدة أمور، منها: خروج صفوان بن أميه إلى جدة يريد أن ينزل منها إلى اليمن كما في السير». ومعروف أن ذلك حدث بعد فتح مكة.

وكانت جدة معروفة لتجار مكة، والذي كان أحد كبارهم الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، الذي يبدو أنه كان على معرفة تامة بهذه المدينة. تذكر بعض المصادر انه عندما هاجر المسلمون إلى الحبشة ومنهم عثمان -رضي الله عنه-. وكان ذلك على الأرجح من مرفأ جدة. كما أن عثمان -رضي الله عنه- لابد وأنه أبحر من ميناء جدة في بعض رحلاته للتجارة وهو التاجر القرشي المعروف.

لذا فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما دعت الحاجة لبناء مساجد في جدة انتدب هذا الصحابي الجليل لتنفيذ هذه المهمة مرتين. في المرة الأولى، لبناء ما يسمّى اليوم بزاوية أو مسجد (عثمان بن عفان)، والذي كان يسمّى في الماضي مسجد الآبنوس. وفي المرة الثانية لبناء المسجد الشافعي، والذي كان يسمّى قديمًا الجامع العتيق. وكلا المسجدين ما زال قائمًا إلى اليوم. وقد أشار الرحالة ابن جبير في القرن السادس الهجري إلى هذين المسجدين ونسبهما إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

مساجد جدة:
يقول الأنصاري -رحمه الله- عن مساجد جدة في كتابه موسوعة «تاريخ مدينة جدة»: ان من أقدم مَن تحدث عن مساجد جدة ناصر خسرو علي، الذي قال: إن «قِبلَة مسجد الجامع ناحية الشرق. وليس بخارجها عمارات أبدا، عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم». كما يقول الأنصاري إن البشاري تحدث في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» فقال إن «بجدة جامعًا سريًّا». وذكر الأنصاري أن الرحالة ابن جبير تحدث عن مساجدها فقال: «وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب إليه -رضي الله عنه-».

كما ينقل الأنصاري عن «ابن بطوطة» وهو الرحالة الذي يعنى بذكر المساجد والجوامع قوله: «إن بجدة جامعًا يعرف بجامع الآبنوس معروف البركة يستجاب فيه الدعاء إن شاء الله». ويقول الأنصاري إن بطرس البستاني لم يذكر من مساجد جدة ، سوى «جامع الآبنوس».

مسجد عثمان بن عفان (الآبنوس):
جاء ذكر هذا المسجد في كتابات كثير من المؤرخين والجغرافيين مثل البستاني في «دائرة معارفه».. حيث قال فيها إنه : «مسجد مبارك»، كما سماه ابن جبير «مسجد الآبنوس» : وقال إن به ساريتين من خشب الآبنوس، وأنه ينسب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول الأنصاري في موسوعة تاريخ مدينة جدة: « هو المعروف ، على أصح الروايات بمسجد عثمان بن عفان» ويستطرد قائلاً «وبعض سكان جدة اليوم يسميه «زاوية عثمان ابن عفان».

وهو مسجد صغير يقع قي زقاق متعرج من حارة المظلوم، قرب دار نصيف ومنازل آل الجمجوم وليس ببعيد من مسجد المعمار على تلة ربما كانت أعلى نقطة في جدة عند بناء هذا المسجد.

وينقل الأنصاري عن ابن فرج أنه كانت له ساريتان من خشب الآبنوس فيه بجانب محرابه ، إحداهما كانت باقية في عهده (ابن فرج) والأخرى فقدت.
كما ينقل الأنصاري عن ابن فرج أن عبدالله بن العباس -رضي الله عنهما- كان يجيء إلى جدة في الشتاء ويعتكف بهذا المسجد في شهر رمضان.
هذه لمحات من ماضي أقدم مساجد جدة، زاوية عثمان بن عفان الذي بُنى بأمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في فجر الإسلام تقام فيه الصلوات إلى يومنا هذا، وكان يعرف قديمًا بمسجد الآبنوس، وأصبح اليوم واحدًا من آلاف المساجد الموجودة بمدينة جدة، ميناء المملكة العربية السعودية الرئيس.

المصدر / جريدة المدينة لـ عدنان عبدالبديع اليافي / الأربعاء, 13 مايو 2009