إطلالة على مدينة جدة في القرن الثامن الهجري من خـلال عدسة ذاكرة ابن بطوطة

زار الرحالة الشهير ابن بطوطة بلادًا عديدة، ذات لغات مختلفة، وتحدث عن أشياء وأشخاص وظواهر أورد اسماءها بلغات بيئتها. وكان هذا هو الفارق الكبير بينه وبين كثير من الرحالة المسلمين الذين أتوا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر جدة فكانت رحلاتهم على الغالب بغرض الحج والعمرة والسلام على سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، يعودون بعدها إلى أوطانهم. أما ابن بطوطة فإن رحلاته كانت شبه مستمرة لعشرات من السنين، جاب خلالها مشارق الدنيا ومغاربها مما أكسبه علمًا غزيرًا في هذا المجال وجعل منه عميد الرحالة العرب بحق كما استحق لقب “أمير الرحالة المسلمين”.

ولقد أكسب ابن بطوطة سفره الكثير هذا، معرفة واسعة بعدة لغات، فنجده في كثير من الأحيان يشير إلى اللغة التي تنتمي إليها الكلمة التي يتحدث عنها. وفي هذا السياق يذكر مأمون جرار في كتابه (معجم ابن بطوطة في رحلته)» أن من دأب ابن بطوطة أن يشير إلى اللغة التي تنتمي إليها الكلمة فيقول: هي بلسان التركية كذا، أو بالفارسية كذا.

ويضيف مأمون جرار قائلًا: لقد كان ابن بطوطة ينظر بعين الرحالة اللاقط لكل طريف أو غريب في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الزراعية أو الدينية.. ولذلك لم يكن همّه في تفسير كثير من الألفاظ المترجمة فحسب، بل قدم الوصف المفهم والبيان المفصل، ولذا يستغرق حديثه عن بعض ما تحدث عنه صفحة أو أكثر من صفحة. ونراه يورد ما يرتبط بالكلمة من شائعة أو أسطورة أو عاده اجتماعية كما فعل في حديثه عن النارجيل والفوفل والتنبول والحيدريه.

ويقول مأمون جرار إنه كان لابن بطوطة ذاكرة عجيبة، ومن عجائبه أنه كان يحفظ جُملاً سمعها أو قرأها، وبقيت في ذهنه بعد سنين.

ولقد كان من غزارة فهم ابن بطوطة العميق ببعض لغات الدول التي سافر إليها أن استطاع الدكتور مأمون فريز جرار أن يكتب كتابًا عبارة عن معجم لرحلة ابن بطوطة وما جاء فيها من كلمات أعجمية بعنوان (معجم ابن بطوطة في رحلته).

ولقد أهّلت خبرة ابن بطوطة في الأسفار له أن يكتب ما لم يستطع غيره من كتابته عن مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكانت المدينتان المقدستان شاخصتين دومًا في كتاباته.

ولقد زار هذا الرحالة العربي الشهير الأراضي المقدسة أربع مرات، وحج خلالها سبع حجات، وصام بها ثلاث رمضانات، وهو ما لم يتيسر للكثير من الرحالة المسلمين الآخرين.

ولقد بدأ ابن بطوطة رحلاته عندما كان شابًا يافعًا لا يزيد عمره عن واحد وعشرين عامًا، إذ انطلق من مدينة طنجة متوجهًا إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج، والاستفادة من علماء المشرق العربي. وقد بدأ تلك الرحلة يوم الخميس الثامن من رجب عام 725هـ متوجهًا إلى تونس، ثم إلى الأسكندرية، ومنها إلى القاهرة وصولاً إلى صعيد مصر. ثم إلى دمشق التي ذهب منها إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة حيث حج للمرة الأولى عام 726هـ / 1326م.

ولقد تحدث عن مدينة مكة المكرمة كما تحدث عن المسجد الحرام ووصف الكعبة والمقام والحجر الأسود والميزاب، وذكر أبواب المسجد ووصف الصفا والمروة، عندما تحدث عما شاهده في داخل المسجد الحرام وخارجه. وتحدث عن عادات أهل مكة في زمنه ووصف صلاة الجمعة بالحرم وبين كيفية إحرام الكعبة آنذاك.

ولم يكن ذلك بعد رحلته الأولى التي كانت مدتها قصيرة حيث كان قد دخل مكة في أواخر شهر ذي القعدة وخرج منها في العشرين من ذي الحجة من نفس العام(726هـ)، وإنما كان ذلك بعد إقامته الطويلة بمكة المكرمة عندما عاد إليها وجاور بها عام 728هـ ، 829 هـ ، 73.هـ الموافق 1327م ، 1328م ، 1329م. وكذلك بعد أن حج للمرة السابعة والأخيرة عام 749هـ/1348م وصام رمضان تلك السنة في مكة المكرمة.

كما تحدث ابن بطوطة عن المدينة المنورة، وكانت مدخله إلى مكة المكرمة في رحلته الأولى، فوصف المسجد النبوي الشريف وصفًا جيدًا وذكر تواريخ بناء المسجد وتحدث عن المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم.

كما وصف ابن بطوطة جدة التي كانت نقطة عبوره من وإلى المدينتين المقدستين واهتم ببعض جوانبها التاريخية والعمرانية وذكر بعض أهلها.
ترجمة ابن بطوطة:
يترجم د. درويش الجويدي في مراجعته لكتاب (رحلة ابن بطوطة) مؤلف الكتاب فيقول عنه: ابن بطوطة هو محمد بن عبدالله بن محمد بن ابراهيم اللواتي الطنجي، أبو عبدالله، رحالة، مؤرخ. ولد في طنجه سنة 7.3هـ/13.4م بالمغرب الأقصى، وخرج منها سنة 725هـ فطاف في بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوه. ويقول الجويدي: إن ابن بطوطة أملى رحلته على محمد بن جزى الكلبي، بمدينة فاس سنة (756هـ) وسماها (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وأضاف الجويدي إن ابن بطوطة كان يحسن التركية والفارسية وأن رحلته استغرقت 27 سنة : 1325م – 1352م وأنه توفي في مراكش عام 779هـ/1377م رحمه الله.

جدة بعدسة ذاكرة ابن بطوطة”
في بعض رحلاته الأربع إلى مكة المكرمة كان قدوم ابن بطوطة إليها وخروجه منها يتم عبر بوابه الحرمين الشريفين، جدة. ولقد زار ابن بطوطة جدة مرتين: المرة الأولى كانت عام 73.هـ بعد أن فرغ من حجته بعد إقامة بمكة المكرمة استمرت ثلاث سنوات وبعد حج عام 73.هـ غادر ابن بطوطة مكة المكرمة حتى وصل حدة التي قال :إنها نصف الطريق بين مكة المكرمة وجدة. وبعد ذلك غادرها إلى جدة التي يصف وصوله إليها قائلًا:
ثم وصلت إلى جدة ، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر ، يقال إنها من عمارة الفرس، وبخارجها مصانع قديمة، وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصّلد يتصل بعضها ببعض ، تفوت الإحصاء كثرة. وكانت هذه السنة قليلة المطر، وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم، وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت. وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبدالرزاق، وقاضيها وخطيبها الفقيه عبدالله من أهل مكة شافعي المذهب، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة، أتى المؤذن وعدَّ أهل جدة المقيمين بها، فإنْ أكملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة، وإن لم يبلغ عددهم أربعين صلى ظهرًا أربعًا، ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عددًا كبيرًا. واتجه ابن بطوطة بعد ذلك من جدة إلى اليمن. ولا شك أن اتخاذ ابن بطوطة جدة منطلقًا لبعض رحلاته لهو دليل واضح على أهمية هذه المدينة العريقة كميناء بحري وكنقطة عبور إلى مختلف موانئ البحر الأحمر وغيرها. وإن كانت هذه الأهمية لم تحظ باهتمام كبير من ابن بطوطة لأسباب ربما كانت تتعلق بأسلوبه في تدوين (رحلته) إذ أنه كان يولي بعض الجوانب اهتمامًا كبيرًا بينما يغفل البعض الآخر. كما أن طول إقامته في بعض الأماكن جعلها تستحوذ على نصيب أوفر في كتاباته عن غيرها من المدن مما أدى إلى عدم توسعه كثيرًا في الحديث عن جدة عندما كتب عن مروره بها وإقامته فيها. إلا أن ذلك لم يمنع ابن بطوطة من تسجيل بعض ما شاهده فيها وذكر بعض ملامح هذه المدينة عند تواجده فيها. وتعد تلك الكتابات بمثابة إطلالة على جدة بعدسة ذاكرة هذا الرحالة العربي المسلم الشهير، نتعرف من خلالها على بعض خصائصها في القرن الثامن الهجري.

مما سبق يُلاحظ أن ابن بطوطة تطرق في البدايات بإشارات موجزة لتاريخ هذه المدينة، فذكر أنها بلدة قديمة، وأن بناءها يعود للفرس منذ القدم، وهي روايات يظهر أن العامة كانوا يتداولونها في ذلك العصر (وعلى أي حال هي مقولة يتحفظ كثير من المؤرخين اليوم عليها). ويبدو ابن بطوطة اكتفى بنقل ما سمع وربما دون أن يتحرى صحة هذه المعلومات من عدمها. وقد نجد له العذر في ذلك فلربما لا نتوقع منه في ضوء الزخم الكبير من المعلومات التي أوردها في كتابه أن يتحقق من كل ما يذكر.

وإذا كان ابن بطوطة قد تطرق بإيجاز إلى تاريخ جدة فإنه يشير إلى ظواهر أخرى فيها بأسلوبه المتميز. فنجده يذكر صاحب جدة في زمنه، أبا يعقوب بن عبدالرزاق، ويذكر أن قاضيها وخطيبها كان من أهل مكة المكرمة. ومن ذلك يفهم أن جدة كانت عندئذ تتبع مكة المكرمة إداريًا كما هو دأبها منذ أن مصرت على يد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ولذلك كان أميرها نائبًا عن أمير مكة المكرمة وقاضيها يعيّن من قبله، بالرغم من أنها قد شهدت بعد عصر ابن بطوطة وتحديدًا في عهد المماليك الجراكسة محاولات قام بها سلاطين تلك الدولة لسلخ جدة إداريًا عن مكة المكرمة، ولكنها باءت بالفشل، وإن كانوا قد استطاعوا أن يضعوا أيديهم على نصيب وافر من إيرادات جمركها والتي أخذت بالتزايد في تلك الأثناء فخشي السلاطين المماليك أن يستغل أمراء مكة هذه الموارد فيحققوا من خلالها طموحاتهم في بناء دولة مستقلة، فشاطرهم المماليك هذه الموارد كما شاركوهم في إدارة هذه المدينة.

وعندما تحدث ابن بطوطة عن قاضي جدة وخطيبها عبدالله، والذي قال ابن بطوطة : إنه كان شافعي المذهب، وقال عنه: إنه كان يلتزم في إقامة صلاة الجمعة أن يكون عدد الحضور في المسجد أربعين رجلاً من أهل المدينة نفسها، فهل هذا يعني أن عدد الرجال من أهل جدة لم يكن يصل في زمنه أحيانًا إلى أربعين رجلاً آنذاك. لا نظن ذلك بل ربما دلّ ذلك على كثرة أسفار أهل جدة للتجارة وطلبًا للرزق في زمن ابن بطوطة كما في الأزمان الأخرى. فهذا كان واقع هذا الميناء تاريخيًا كما تشير كثير من المصادر، حيث أنها كانت قد بدأت بالتحول إلى أحد الموانئ الرئيسية لتجارة النقل والتوزيع بالإضافة إلى كونها ميناء عبور المسافرين.

وبالرغم من أن ابن بطوطة لم يتحدث بإسهاب عن عمران جدة إلا أنه ذكر مسجد الأبنوس والذي يسمى اليوم مسجد عثمان بن عفان وهو أول مسجد بني في جدة خلال خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبأمر منه رضي الله عنه حيث كان قد انتدب الصحابي الجليل عثمان بن عفان للقيام بمهمة بنائه.

وعن هذا المسجد قال ابن بطوطة: “إنه مسجد مبارك يجاب فيه الدعاء”، وسماه مسجد الأبنوس. ومن المعروف أنه كان لهذا المسجد في الماضي ساريتان من الأبنوس.

وأشار ابن بطوطة إلى شحّ الماء في جدة حيث قال: “إن الحجاج والغرباء على العموم يطرقون أبواب بيوت جدة يسألون شربة ماء”.
كما أشار ابن بطوطة في ثنايا حديثه هذا إلى الصهاريج الكثيرة المحفورة في الصخر والتي حفرها أهل جدة لتأمين المياه.

وفي سنة 732هـ زار ابن بطوطة جدة مرة ثانية قادمًا من مكة المكرمة في طريقه إلى اليمن ومنها إلى الهند. وعن هذه الزيارة الثانية لمدينة جدة يقول ابن بطوطة: ولما انقضى الحج توجهت إلى جدة برسم ركوب البحر إلى اليمن والهند، فلم يُقضَ لي ذلك ولا تأتى لي رفيق. وأقمت بجدة نحو أربعين يومًا. وكان بها مركب لرجل يعرف بعبدالله التونسي يروم السفر إلى القصير من عمالة قوص، فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني ولا طابت نفسي بالسفر فيه. وكان ذلك لطفًا من الله تعالى ، فإنه سافر فلما توسط البحر غرق بموضع يقال له رأس أبي محمد. فخرج صاحبه وبعض التجار في العُشاري بعد جهد عظيم، وأشرفوا على الهلاك وهلك بعضهم وغرق سائر الناس، وكان فيه نحو سبعين من الحجاج. ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب، فردتنا الريح إلى جبل يعرف برأس دوائر. وسافرنا منه في البر مع البجاة. يقول ابن بطوطة: إنه بعد تسعة أيام من السفر من رأس دوائر وصل إلى عيذاب.

هكذا بدت جدة عندما زارها ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري. وشتان بين ذلك، وبين ما هي عليه اليوم كمدينة عالمية يسكنها الملايين من الناس وأصبحت بحق عروس البحر الأحمر وتفخر بكونها الميناء الرئيس لوطننا الحبيب المملكة العربية السعودية.

المصدر / جريدة المدينة  -  بقلم / عدنان عبدالبديع اليافي الأربعاء, 14 أكتوبر 2009 .