رحلة الحج تعيد مسيرة القوافل على أبواب مكة

رحلة الحج تعيد مسيرة القوافل على أبواب مكة

 

«سوق المسفلة» لحجاج أفريقيا و «الليل»لمصر وجنوب شرق آسيا و «أجياد والسوق الصغير» لحجاج الهند

كلما حل موسم الحج وقفت متذكرا ومتأملا أطلالا من الماضي القريب تروي قصص الحجيج وقوافلهم المتتابعة عاما تلو آخر.. أتذكر معهم لحظة دخولهم مكة المكرمة على جمال كانت تشكل أفضل وسيلة نقل في زمن لم يعرف وسائل النقل الحديثة..قوافل الحجاج كانت تصل للأراضي المقدسة وتحمل كل منها قصة تروي مشقة وعناء السفر، الكل كان يأتي للحج غير مكترث بالمخاطر التي ستواجهه.

بعض تلك القصص كانت مشاهدات رأيتها بعيني وبعضها الآخر قرأتها في كتب المراجع التاريخية، وثالثة سمعتها تروى من كبار السن من الذين عاصروا الحج في الماضي.

والبداية إن كنت سأرويها كقصص فإنها تبدأ من حيث كان الحجاج يصلون عبر قوافل منظمة من مصر والعراق والشام واليمن إذ ظهر حينها ما يعرف بالحج المصري والحج العراقي والحج الشامي والحج اليمني ولكل قافلة رئيس ومنظمون وكانت هذه القوافل تقصد مكة المكرمة براً عدا البعض من الحجاج المصريين فإنهم يصلون بحرا مثلهم في ذلك مثل حجاج دول جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا وبعد رحلة العناء البحرية يستقرون في جدة أياما قلائل يغادرون بعدها إلى مكة المكرمة .وكان وكيل المطوف هو من يقوم باستقبالهم والترحيب بهم وتوفير وسائل نقلهم.

تلك كانت مشاهدات أولية قرأت عنها قبل قيام الدولة السعودية على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن طيب الله ثراه وكانت تحمل الكثير من المعاناة لضيوف الرحمن خاصة في رحلتهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة إذ كانت عمليات السلب والنهب وأخذ الإتاوات دون وجه حق هي السائدة في زمن لم يعرف الحاج فيه الأمن والأمان على ماله وعرضه.

بدايات التنظيم وان أردنا الحديث عن البداية الحقيقية لتنظيم خدمات الحجاج فإننا نقول أنها كانت عام 1343 ه وتحديدا يوم الخميس 7 جمادى الأولى بعد أن ضم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الحجاز وأعلنت مبايعته ملكا عام 1344 ه؛ إذ أعلن طيب الله ثراه بحضور الأهالي ورؤساء القبائل والعشائر أن العمل في حرم الله سيكون بما في كتاب الله وسنة نبيه، فلا يحل في هذه البلاد إلا ما أحله الله ، ولا يحرم فيها إلا ما حرمه وأكد أنه سيضرب بيد من حديد وبلا رحمة ولا شفقة على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن أو محاولة تعكير صفوه، وركز بصفة خاصة على توفير الأمن والطمأنينة لحجاج بيت الله الحرام في جميع المشاعر والطرقات المؤدية إليها.

الجمال وسيلة النقل وكانت عملية نقل الحجاج الى مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة (عرفات مزدلفة منى) تتم بواسطة الجمال وكان للجمالة هيئة يطلق عليها هيئة المخرجين تتولى مسؤولية إحضار الجمال والجمالة وتتبعهم جماعة أخرى تعرف بالمقومين وهم من يتولون تقدير حمولة الجمل من عفش الحجاج وركوبهم وأجرة الجمل تقدر في كل عام في بداية موسم الحج فالجمل الذي يحمل الحاج له أجر والجمل الذي لا يحمل إلا عفش الحاج فقط له أجر.

تأسيس شركة السيارات.. وفي عام 1345 ه صدر نظام تسيير السيارات تلاه في عام 1346 ه صدور الأمر السامي بالمصادقة على نظام تسيير السيارات

وبتشجيع من الملك عبد العزيز طيب الله ثراه تأسست الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات بالحجاز.

تلك كانت الصورة الأولية لنقل الحجاج عبر الجمال والسيارات في زمن غاب وآخر حضر فيه الأمن على الطرق بين جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة.

نظام إدارة الحج أما فيما يتعلق بتنظيمات الحج وخدمات الحجاج فإننا نقول أنه عندما دخل الملك عبد العزيز مكة المكرمة أصدر بلاغاً في 12 جمادى الأولى سنة 1343ه أقر فيه العمل لرفع مستوى الخدمات المقدمة للحجاج من قبل المطوفين والأدلاء والوكلاء وكل من له علاقة بخدمة الحجاج وصدر نظام إدارة الحج في 20 ربيع الأول سنة 1345ه والذي يعد أول تنظيم لخدمات الحجاج في عهد الدولة السعودية.

وميناء جدة والذي كان يشكل أعلى نسبة في استقبال الحجاج القادمين لأداء فريضتهم كان هناك عدد من وكلاء المطوفين وهم المسؤولين عن استقبال الحجاج وترحيلهم إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة وإضافة إلى الوكلاء كان هناك الجمالة والمقومون وان كان الجمالة مسؤولين عن توفيرالجمال لنقل الحجاج فإن المقومين يتولون عملية نقل الحجاج إلى مكان الجمالة وترتيب عفشهم للنقل والرحلة.

والرحلة من جدة إلى مكة المكرمة وان كانت تستغرق ساعات على الجمال فإنها كانت محفوفة ما يعرف بالمصاعب ليست الأمنية، ولكن المناخية أيضاً فالرياح المحملة بالرمال توثر على الكثير من الحجاج وقد تستغرق عملية وصولهم إلى مكة يوما أو أكثر.

ولحظة وصول الحجاج إلى مكة المكرمة وقبل دخولهم إلى ما يعرف حاليا بالمنطقة المركزية كان هناك مركز لاستقبال الحجاج القادمين من جدة بميدان البيبان وهناك مرشدون ينقلون الحجاج إلى مطوفيهم مباشرة وقد يكون هذا العمل يشبه تماما العمل المنفذ حاليا ولكن بنوع من التطوير العصري الذي فرضته الطبيعة التاريخية.

وكان لكل مطوف مقر خاص يستقبل فيه الحجاج يطلق عليه (البرزة) والبرزة هذه تشكل تنافس قوي بين المطوفين فكل منهم يعمد إلى إظهار برزته بشكل أفضل رغبة منه في الدعاية وقدوم حجاج في العام القادم أكثر من حجاج هذه العام.

وداخل البرزة نجد المطوف وقد تصدر صدر المجلس فيما نرى عن يمينه وشماله مجموعة من الحجاج القادمين له وبينهم شيخ وإمام مسجد وعمدة وهكذا وعند مدخل البرزة يقف أبناء المطوف وعماله في استقبال الحجاج وإدخالهم وتقديم واجب الضيافة لهم.

أما النساء من الحاجات فكانت لهن خدمات خاصة تقدم لهن من قبل زوجة المطوف وأخواته وبناته وهي تماثل الخدمة التي يقدمها المطوف للحجاج.

مسؤولية المطوفوشكلت مثل هذه الخدمات علاقة جيدة بين المطوفين والحجاج وصلت إلى حد النسب فكم من مطوف تزوج من ابنه حاج أو أخته.

وقبل أن نذهب إلى المشاعر المقدسة حيث عرفات ومنى نقف متسائلين عن الخدمات التي كان يقدمها المطوف للحجاج وهي خدمات متعددة، فالمطوف مسؤول مسؤولية مباشرة عن الحجاج منذ وصوله إلى مكة المكرمة ينقل المريض إلى المستشفى باحثا عن علاج له ومتابعاً لصحته أما الحجاج المتوفون فإن المطوف مسؤول عن عملية دفنهم وحصر تركتهم وتسليمها لذويهم وكان المطوف هو المرجع الفقهي للكثير من الحجاج في المسائل التي يبحثون عن إجابة لها فيما يتعلق بالفريضة ولم يكن المطوف يوما مجرد موظف يمارس عملا بل هو شيخ وسط حجاجه حتى أن الكثير من الحجاج صنفوا المطوفين بأسماء أصبحت ألقابا مشهورة لهم فالأتراك يقولون للمطوف الدليل أما حجاج جنوب آسيا فيقولون له المعلم وحجاج جنوب شرق آسيا يطلقون عليه الشيخ وهذا نتيجة طبيعية للمكانة التي يحظى بها المطوف لدى الحاج.

وفي رحلة الحاج إلى مكة المكرمة مشاهدات ينقلها بعينه لتحفظها ذاكرته فيرويها لسانه لأبناء قومه بعد عودته لوطنه ومن هذه المشاهدات التي لا زالت محفوظة في الذاكرة لدى الكثير من أحفاد الحجاج وأبنائهم زياراته للمواقع التاريخية لمكة المكرمة بدءا من جبل النور وجبل ثور ففي هذين الموقعين كانت ادمع الحجاج تنهمر بكاء على ما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته وهجرته إلى المدينة المنورة.

إلى عرفات ولو خرجنا من مكة المكرمة متجهين إلى عرفات حيث نشهد يوم الوقفة الكبرى على صعيدها فإننا نتحدث عن بدايات أولية كانت معتمدة على نقل الحجاج بواسطة الجمال فكل مطوف كان يحمل حجاجه على جمال يستأجرها ويكون قد جهز مخيمه في عرفات وعادة ما يصل الحجاج الى عرفات مساء اليوم الثامن حيث ان نسبة منهم يتجهون الى منى صباح يوم الثامن لحضور يوم التروية وكان هؤلاء معظمهم من حجاج جنوب آسيا.

أما في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقفة فإننا لانجد المطوف جالسا بقدر ما نجده متحركا يمنة ويسرة يذلل الصعاب التي تواجه الحجاج ويوفر المياه ويتحدث مع الطباخ الذي سيقدم وجبة الغداء للحجاج في هذا اليوم.

ووجبة الغداء في يوم عرفات كانت لدى المطوفين عادة يحرصون على تنفيذها لسببين رئيسين أولهما أنها تشكل فرصة لمنح الحجاج التفرغ الكامل للعبادة وثانيهما انها تعتبر صدقة عنهم وعن أبائهم ولا ينظر المطوفون الى ما ينفقونه لوجبة الغداء يوم عرفات نظرة مادية باحثين عن توفير لها بقدر ما هم باحثون عن إشباع الحجاج وإرضائهم في هذا اليوم المبارك.

الى مزدلفة ومع غروب شمس يوم عرفات يبدأ الحجاج في الصعود على جمالهم قاصدين مشعر مزدلفة حينما كانت وسيلة النقل تعتمد الجمال.

وحينما دخلت السيارات أوجدت نوعا من الراحة لعملية النقل لعرفات لكنها واجهت مشكلة تمثلت في قلة عدد الطرق المتجهة من عرفات لمزدلفة وكان الحاج يمضي في رحلته من عرفات إلى مزدلفة أكثر من 6 ساعات مما يشكل إعياء على كبار السن منهم.

وفي مشعر مزدلفة لم يكن هناك مطوفون يستقبلون الحجاج ولكن مع كل حافلة تنقل الحجاج يوجد مرشد يرشد الحجاج إلى أماكن التقاط الجمار وأداء صلاتي المغرب والعشاء بها..

يوم النحر وقبل الذهاب الى المجزرة لنحر الهدي يكون الحجاج قد جهزوا أنفسهم واعدوا نقودهم لشراء أضاحيهم من الحظائر الموجودة حول المجزرة والتي لم تكن في السباق بالشكل المنظم يفصل الجمال عن الأبقار والضان والماعز فقد تجد في الحظيرة الواحدة جمالا وأبقارا وضأنا وماعزا وهي عادة ما تكون لتجار قدموا من خارج مكة المكرمة حرصوا على تربية مواشيهم طوال العام لبيعها في موسم الحج.

وان كان الحجاج يشترون أضاحيهم فإن البعض منهم يصر على ذبحها بالمجزرة فيما يصر البعض الآخر على ذبحها داخل المخيم وكانت الأضاحي في منى منتشرة بالطرقات ووسط المخيمات تنتشر منها روائح سيئة تضر بالصحة.

أيام منى وان كان الحجاج يمضون ثلاث ليال في منى فإن حجاج دول جنوب شرق آسيا يمضون أربع وفي كل ليلة يصحب مرشد من قبل المطوف مجموعة من الحجاج للرجم حرصا من المطوف على عدم ضياع حجاجه وتوطيد العلاقة معهم بشكل يومي.

وقد يكون من الصعب جدا ان نسرد بإيجاز او حتى بتفصيل لرحلة الحاج من مكة المكرمة الى المشاعر المقدسة والعودة منها خلال الحقبة الزمنية الماضية لكننا نقول بإيجاز إنها كانت رحلة شاقة وصعبة حتى وان توفرت فيها وسائل النقل الحديثة خلال ذلك الزمن من حافلات لم تكن مكيفة ولم تكن الشوارع مسفلتة بشكل جيد ولم تكن متسعة او حتى متعددة المسارات فضلا عن أن المطاعم التي كانت تنتشر بالطرقات لم تكن تتوفر بها ابسط مقومات صحة البيئة فلا متابعة يومية لخدماتها وما تقدمه من مأكولات.

وطواف الإفاضة الذي يؤديه الحجاج بعد رجمهم ونحرهم يثمر عن لقاءات للكثير من الثقافات الإسلامية فنرى الحاج المصري قد التقى بحاج قادم من شمال أفريقيا أو حتى جنوبها وعادة ما يدور الحديث بينهما عن الموطن ومن ثم السكن بمكة المكرمة وهذا ما اوجد أسواقا محددة للحجاج انحصرت في سوق الليل وشعب عامر وشعب علي والسوق الصغير والمسفلة وكانت هذه الأسواق

القريبة من المسجد الحرام هي أكثر الأسواق اكتضاضا بالحجاج حيث تظهر فيها الهدايا المتعددة فلو نظرنا إلى أسواق المسفلة مثلا فإننا نرى أن جل بضائعها محددة لحجاج أفريقيا غير العربية وفي سوق الليل نرى أن الأقمشة والعطارة والحناء تشكل أساسيات رئيسية لهدايا حجاج مصر وجنوب شرق آسيا وفي اجياد والسوق الصغير نجد أن حجاج الهند يحرصون على شراء السبح كهدايا غالية من مكة المكرمة.

والبعض من الحجاج لا يشترون الهدايا لأقاربهم وأصدقائهم فقط فهناك من يشترونها للمطوفين وأبنائهم كتعبير عن شكر وتقدير لخدمة قدمت لهم.

والخروج من مكة مؤلم للقلب ومدمع للعين ويزداد ألما حينما تقف الحافلة المقلة للحجاج أمام مقر الشركة لختم جدول السائق وهي محملة بالحاج احد أبناء مكة المكرمة وينشد قصيدة تجعل الحجاج يبكون لفراق مكة المكرمة وأهلها.

المصدر / جريدة الرياض 4 القعدة 1430هـ / وائل اللهيبي