سقيا الحجيج عمل شاق قامت به “زبيدة” فحفظ لها التاريخ مكانتها
لم يكن بمكة ماء غير ماء زمزم وهو المصدر المائي الوحيد الذي كان يجذب اليه القبائل التي تموج بها جزيرة العرب، وكانت مكة بلدة قاحلة ليس لأحد فيها قرار حتى هيأ الله سبحانه وتعالى لإسماعيل وامه عليهما السلام نبع ماء زمزم فارتبط اسم مكة منذ نشأتها بانفجار هذا الماء المبارك، فتوافد الناس اليها من كل حدب وصوب واستوطنوا بها وتحقق بذلك دعاء ابي الأنبياء سيدنا ابراهيم الخليل عليه وعلى نبينا افضل الصلاة واتم التسليم وذلك حينما دعا ربه بقوله: (ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
ولكن بمرور الزمن والاحقاب احست قريش بضرورة ايجاد مصدر اخر للماء، فشرعت في حفر الآبار وعمد بعض القرشيين الى عمل الحياض على رؤوس الجبال وفي داخل الشعاب لتخزين مياه الأمطار، وكان قصي ابن كلاب الجد السادس للمصطفى صلى الله عليه وسلم اول من حكم العرب من ولد اسماعيل وقد وضع نظاما "فريدا" من نوعه في مكة عرف بـ “نظام السقاية والرفادة” بغية توفير الماء والطعام لأهل مكة، ومن ثم بدأت قريش في الاهتمام بحفر الآبار واستمر هذا الأمر خلال العصور الإسلامية حيث بذل الخلفاء جهودا" مضنيه لتوفير الماء لأهل مكة والحجاج.
وخلال العصر العباسي ادركت السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد حاجة مكة للمياه وما يعانيه اهلها والحجاج من شح مياهها، واسم زبيدة هو امة العزيز وكان جدها المنصور يرقصها وهي طفلة ويقول انت زبيدة فاشتهرت بها، وكانت من اهل الخيرات ولها مآثر عظيمة منها اجراء الماء الى مكة لذلك اتجهت همتها الى تنفيذ مشروع ضخم يتواءم مع مكانة المسجد الحرام ولو كان من خارج حدودها رغم وجود العوائق الطبيعية التي قد تحول دون تحقيق هذا الهدف لذلك اتجه المهندسون والعمال الى منطقة حنين ( الشرائع حالياً ) فنقبوا وعملوا في الجبال الى ان سلك الماء من ارض الحل الى ارض الحرم.
ونبع هذه العين من جبل شامخ يقال له “طاد” على طريق الطائف – مكة – السيل وهو من ديار هذيل يسيل منه الصدر (صدر وادي حنين) وكان الماء يجري الى ارض يقال لها حنين يسقى بها زروع ونخيل مملوكة لبعض الناس.
والى هذه الزروع ينتهي جريان الماء وكان يسمى بحائط حنين فاشترت السيدة زبيدة هذا الحائط وابطلت تلك الزروع وشقت له القناة في الجبال ثم امرت ببناء البرك عند كل جبل بغية اجتماع الماء فيها عقب الأمطار واجريت في قناة الى مجرى العين لتغذيها وتقويها فصارت كل بركة تساعد عين حنين وتمدها بالماء ومن ذلك عين المشاش (عين الشرائع) وعين ميمون وعين الزعفران وعين البرود وعين الطارقي وكل مياه هذه العيون تنفع في دبل عين حنين حتى وصلت بهذه الصورة الى مكة تزيد وتنقص بحسب الأمطار وكثرتها.
ثم أن السيدة زبيده أمرت باجراء عين ووادي نعمان الى عرفة وهي عين نبعها دبل في جبل كرا الشامخ والذي تتربع فوقه مدينة الطائف وتنصب المياه من دبل كرا في قناة الى موضع يقال له الأوجر من وادي نعمان وتجري منه الى موضع بين جبلين شاهقين في علو أرض عرفات وعملت القنوات حتى جرى الماء الى عرفات ثم اديرت القناة بجبل الرحمة وعملت البرك الى عرفات لسقيا الحجاج وعملت القنوات حتى خرجت من ارض عرفات الى ان وصلت الى طريق ضبا واستمرت حتى منى حيث تصب في بئر عظيمة مطوية باحجار كبيرة تسمى بئر زبيدة.
وظلت عين زبيدة الى عهد قريب تمثل سقيا اهل مكة الوحيد الى ان اجريت عيون اخرى ثم انشئت محطة لتحلية مياه البحر من الشعيبة وهي اليوم لها ادارة تسمى ادارة عين زبيدة والعزيزية. ومما يحفظه التاريخ ان السيدة زبيدة قد انفقت اموالا" طائلة في سبيل توفير المياه الى مكة المكرمة، ويروى انه لما تم الانتهاء من هذه المشاريع اجتمع المباشرون والعمال لديها واحضروا دفاترهم لأجل الحساب ليبرئوا ذممهم ويخرجوا من عهدة ما تسلموه من الخزينة لهذا العمل، وكانت السيدة زبيدة ساعة ذلك في قصر عال مطل على الدجلة فأمرت بالقاء الدفاتر في النهر وقالت : تركنا الحساب ليوم الحساب فمن بقي عنده شيء من بقية المال فهو له ومن بقي له عندنا شيء اعطيناه اياه وألبستهم خلعا ثمينة شكرا لله .
المصدر / جريدة المدينة 27/9/1430هـ - حامد القرشي
0 تعليقات