الأذان في الحرم المكي ..
بدأت مسيرة الأذان في الحرم المكي الشريف منذ أن رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه الأذان معتليا الكعبة الشريفة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقص شريط ذكريات الأذان العبق في بيت الله الحرام ثم توالى المؤذنون في الحرم صادحين بصوت الحق ملبين مهللين مكبرين إلى هذا العهد الزاهر.
المنائر والأذان
قبل أربعين عاما كان لكل منارة مؤذن واحد أو أكثر في المسجد الحرام، حيث أشار إلى ذلك عدد ممن أرخوا هذه السيرة، منهم المؤرخ المكي محمد طاهر كردي في كتابه «التاريخ القويم»، وأصبح وفق تنظيم إداري رابطي تنصيب شيخ للمؤذنين في المسجد الحرام والنبوي فجرى تعيين مشيخة لهؤلاء الأعلام من أسر توارثت شرف هذه المشيخة وكان آخر شيخ للمؤذنين المربي الفاضل عبد الملك ملا رحمه الله الذي انتقل إلى رحمة الله في غرة ربيع الأول عام 1428هـ عن عمر يناهز 75 عاما ليحل محله الشيخ علي بن أحمد ملا.
العوائل المشهورة
وتعاقبت على صعود منائر الحرم ومكبريته الشامخة عوائل مكية رفع أبناؤها الأذان في المسجد الحرام ومن أبرزها بيت المعروف، بيت الشاكر، بيت البصنوي، بيت الريس، بيت خوج وبيت الملا، وذكرت ذلك عدد من المراجع والكتب التي أرجعت تلك العوائل بالأذان إلى ما يقارب 250 عاماً تقريباً حيث يبلغ عدد المؤذنين حالياً في المسجد الحرام 14 مؤذنا هم: شيخ المؤذنين علي ملا، عبد الله ريس، عبد العزيز ريس، محمد مؤذن، محمد شاكر، فاروق حضراوي، محمد معروف، أحمد بصنوي، نايف فيده، ماجد العباس وتوفيق خوج.
المكبرية القديمة
ويروي الشيخ محمد يوسف مؤذن ـ من أقدم مؤذني المسجد الحرام ـ قصة 38 عاماً قضاها داخل مكبرية الحرم المكي التي عاصر خلالها كثيرا من أئمة ومؤذني بيت الله الحرام، والأحوال المختلفة التي مرت بهم حيث يعد سادس مؤذن من الأسرة التي تشرفت بهذه المهمة منذ أكثر من 200 عام، يقول: «كنت أعيش مع والدي الأجواء الروحانية وهو يرفع الأذان لأكثر من 35 عاماً من داخل المكبرية القديمة التي كانت بباب زيادة، ثم نقلت فوق بئر زمزم فكان والدي يصر على اصطحابي معه كلما نوى الذهاب للحرم المكي، وكأنه كان يمهد لي للعمل في هذه المهمة التي تشرفت بها أسرتنا، وفي عام 1389هـ كانت التجربة الأولى لي في العمل بعد وفاة والدي، حيث كان عمل والدي في رفع الأذان يساعدني على التقدم ولم يكن في ذلك الوقت تجرى اختبارات للمتقدمين كما هو الحال الآن ولن أنسى ما حييت التجربة الأولى حيث رفعت لأول مرة الأذان قبل أكثر من 37 عاماً، وقد شعرت برهبة الموقف وأنا أقف أمام مكبر الصوت داخل الحرم لرفع الأذان وهو بلا شك من المواقف التي لازالت عالقة في ذاكرتي، ومن بين أشهر أئمة الحرم الذين عاصرتهم العلماء: عبدالله خياط، عبدالله الشعلان، عبد الطاهر أبو السمح، عبدالله الخليفي ومحمد السبيل إضافة إلى أئمة الحرم الحاليين كما أنني زاملت كبار مؤذني المسجد الحرام مثل عبدالله ريس وأذكر أن أول راتب تقاضيته كان 240 ريالا».
تنسيق الأذان
ويتم التنسيق بين المؤذنين الحاليين بتواجد ثلاثة منهم في كل صلاة، الأول هو المؤذن الأساسي الذي يقوم برفع النداء والأذان والإقامة والترديد وراء الإمام، والمؤذن الثاني ويسمى الملازم، ودوره هو التكبير للصلاة على الأموات والجنائز، أما الثالث فهو المؤذن الاحتياطي، ودوره هو الإنابة عن المؤذن الأساسي أو المؤذن الملازم عند غيابهما وينسق شيخ المؤذنين متابعة سير العمل بين المؤذنين وفق جدول مخصص، وهناك إدارة خاصة تعرف بإدارة الأئمة والمؤذنين في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام تعنى بمتابعة أعمال الأئمة والمؤذنين.
تاريخ الأذان
من جانبه تطرق شيخ المؤذنين علي ملا إلى تاريخ مهنة الأذان في المسجد الحرام حيث قال: «كان في الماضي يبلغ عدد المؤذنين في الحرم المكي 24 مؤذناً، وفي ذلك الوقت كان لزاما أن يكونوا بهذا العدد لتغطية منائر المسجد الحرام، بحيث يصدح في الوقت الواحد ستة مؤذنين لإيصال الأذان إلى جميع أطراف مكة المكرمة».
وسرد الشيخ تاريخ الأذان في المسجد الحرام قائلا «عدد المؤذنين تقلص مع مرور الزمن بسبب وفاة عدد كبير منهم، ليصل عددهم حاليا إلى 14 مؤذنا بعد إضافة المؤذنين الثلاثة الجدد أخيراً»، مشيرا إلى أن المسجد الحرام يستوعب أكثر من هذا العدد بحسب ما تراه رئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وعن آلية عمل المؤذنين في شهر رمضان قال: «هناك جدولة يتم تنسيقها من قبل الرئاسة، يتم بموجبها تعميمها على مؤذني الحرم المكي كافة بحيث يعرف كل مؤذن وقت أذانه، والمؤذن الاحتياطي له في حالة تعرض المؤذن الرئيسي لظروف تمنعه عن أداء مهمته».
وأضاف: «يختلف أسلوب الأذان المكي عن الأذان المدني فهناك ما يميز بينهما، كما أن هناك فرقاً في الأداء فأهل مكة لهم أسلوب في الأداء يختلف عن أي مكان، وكل بلد له أداء معين في الأذان، فتجد الأذان المدني فيه تبحير ورقة في الصوت وأهل المدينة يمتازون برقة الصوت، بينما نمتاز نحن في مكة بقوة الصوت، والحمد لله استطعت أن أجمع بين صوت المدينة والأسلوب المكي قدر المستطاع».
الأذان سابقاً
ويمضي قائلا: «كان هناك مؤذنو منائر بالإضافة إلى مؤقتين وكانت هذه المهمة توكل إلى بيت الريس حيث كان التبليغ في المقام الحنفي، وكان بيت الريس في المقام الشافعي فوق بئر زمزم، وفي المقابل المزولة التي يراقبون منها زوال الشمس ويحددون وقت الزوال وبدء الأذان ليصعد المؤذنون إلى المنائر ويرفعوا الأذان حيث كانت هناك سبعة منائر يرفع الأذان منها وهي: قايد بيه وكانت عند باب النبي عليه السلام، باب علي، باب السلام، باب البغلة، باب العباس، باب المحكمة، إضافة إلى باب الزيادة التي كانت تخلو من مكبرات الصوت.
وأشار إلى المكبرية القديمة الواقعة عند الحصوة خارج الرواق العثماني التي وسعت لتصبح المكبرية الحالية التي تضم الإذاعة والتلفيزيون ومكتب شيخ المؤذنين، وأضاف: من المؤذنين الذين اشتهروا بالأصوات الندية حسن جاوة، حسن لبني، بيت خوج، بيت ملا، بيت معروف وأحمد شحات وغيرهم.
وبين أن المجال كان مفتوحا في السابق للمؤذنين الهواة ممن اشتهروا بالأصوات العذبة حيث كان يسمح لهم بالأذان وذلك عندما كانت وزارة الأوقاف هي الجهة المشرفة على الأذان في الحرم، وعندما انتقلت مهمة الإشراف على الأذان إلى الرئاسة العامة لشؤون الحرمين أصبحت المسألة أكثر تنظيما ولم يعد يسمح بالأذان إلا للمؤذنين المعينين رسميا.
وقال إن آخر مؤذن عين هو الشيخ ماجد العباس ليتوقف التعيين بعد ذلك فترة يعود قبل شهر رمضان الجاري بتعيين ثلاثة مؤذنين تحت التجربة لمدة عام، لافتا إلى أن التوارث ليس شرطا في اختيار المؤذن بقدر ما يكون التركيز على حسن الصوت.
ويتذكر الشيخ علي الأذان في السابق حيث أنه كان يبلغ البيوت المجاورة للحرم ولم يكن في السابق ما يمنع وصول الصوت من المنائر حيث لم يكن هناك ضجيج أو نحوه وكان المؤذن يصعد 360 درجة ليصل إلى مكان الأذان في المنارة ثم ينزل ليصلي في الأسفل مع المصلين، مبينا أن أهل مكة كانوا يعرفون الركن الذي وصل إليه الإمام في صلاته من خلال أداء المبلغ حيث أن هناكنغم خاص لكل ركن.
آلية الاختيار
ويوضح الشيخ ملا إن اختيار المؤذنين يخضع لتقييم مكثف من خلال جمالية الصوت التي تكون من أساسيات الاختيار من قبل لجنة مشكلة من رئاسة شؤون المسجد الحرام تتكون من الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وشيخ المؤذنين والشيخ عبد الرحمن السديس، حيث نستمع إلى أصواتهم من خلال المقابلات الشخصية وعن طريق أشرطة كاسيت تحوي تسجيلا لأصواتهم وهم يؤدون الأذان في المساجد، وبعد المقابلات تأتي مرحلة التجربة العملية من خلال رفع الأذان في المسجد الحرام وتستغرق التجربة عاماً كاملا.
ونحاول من خلال عملنا أن نرسخ الأذان الحجازي الذي ينبغي أن يكون عليه الأذان في الحرم كما كان عليه المؤذنون في السابق أمثال حسن لبني، عبدالله بصنوي، عبدالرحمن ملا وأحمد شحات.
مشيخة المؤذنين
وعن مشيخة المؤذنين الذين تعاقبوا على الحرم المكي قال: كان أولهم الشيخ يعقوب شاكر ابن عم الشيخ علي شاكر ثم شاكر محمد شاكر شقيق الشيخ يعقوب ثم الشيخ عبد الملك ملا الذي تولى المشيخة لأربعين عاما وتوفي قبل عامين ثم انتقلت المشيخة إلي.
وعن صلاحيات شيخ المؤذنين قال يرتب جدول المؤذنين ولم يكن في السابق جدول لأن المؤذنين السبعة كانوا يصعدون في وقت واحد للمنائر وكانت كل واحدة منها مخصصة لبيت معين وكان هناك ترتيب آخر لاختيار أصحاب الأصوات الندية لتكبيرات الأعياد وأذان الجمعة وغيرها، ومن الصلاحيات أيضا تحمله المسؤولية عن المؤذنين أمام الرئاسة، وكذلك النواحي الفنية المتعلقة بالمؤذنين، أما الأمور الرسمية والإدارية فترجع إلى الرئيس العام الشيخ صالح الحصين يحفظه الله.
قبل الأذان
ويعد في رمضان جدول لتنظيم أوقات ومواعيد الأذان يتفق عليه كافة المؤذنين، وأثناء الاستعداد لرفع الأذان وخلال ذلك الوقت يتشرف المؤذن أيا كان بالنظر إلى الكعبة المشرفة والاستمتاع بمشاهدة الطائفين والراكعين وتلاوة القرآن والذكر، وعندما يحين الوقت لرفع أذان المغرب بعد إضاءة المصابيح التي توضح بأن الميكروفونات والتجهيزات الصوتية على أتم الاستعداد وتزامن التوقيت الزوالي أو الغروبي وفق مواعيد أذان صلاة المغرب حسب توقيت تقويم أم القرى يشرع في رفع النداء.
الجانب الآخر
ولفت إلى أن معظم المؤذنين متفرغون للأذان وبعضهم يعمل في سلك التعليم إلى جانب الأذان بالتنسيق مع شيخ المؤذنين لترتيب جدول مناسب لهم، وممن كانوا يشغلون مناصب تربوية هامة شيخ المؤذنين السابق عبد الملك ملا الذي كان مديرا للمعهد العلمي السعودي.
ثلاثة مساجد
وعن نفسه حكى الشيخ علي ملا أنه تخرج من مدارس الرياض عام 1391هـ ثم عين في مكة مدرسا في مدرسة متوسطة ثم شغل منصب موجه تربوي للمرحلة الابتدائية في مادة التربية الفنية.
ومما يميز الشيخ علي أنه أذن في الحرم المدني في فترة الأذان على المنائر قبل توحيد الأذان في المكبرية وكذلك في مسجد قباء، ولديه تسجيلات يحتفظ بها للأئمة القدامى الذين كان لهم تأثير خاص في نفسه.
العالم الإسلامي
وعن زيارته للعالم الإسلامي قال كانت أول زيارة إلى فنزويلا في مدينة كاراكاس برفقة الأمير عبدالعزيز بن فهد لافتتاح جامع الملك فهد يرحمه الله هناك، وآخر زيارة كانت لافتتاح مسجد في جبل طارق، مشيرا إلى أن الناس يتهافتون على المؤذن عندما يعلمون أنه مؤذن الحرم المكي، ومما يؤثر في المشهد أن بعضهم يكون من المسلمين الجدد فيحرص على الالتقاء بالمؤذن والحديث معه وقتا طويلا.
تقصير الإعلام
وفي ختام حديثه لـ «عكاظ» انتقد شيخ مؤذني المسجد الحرام تقصير الإعلام بكافة وسائله في تسليط الضوء على مسيرة الأذان والمؤذنين في الحرم لكون الأذان شعيرة مرتبطة بالركن الثاني من أركان الإسلام لا سيما في أطهر بقعة في الأرض، ودعا الراغبين في تدوين مسيرة الأذان الاستعانة بالمعنيين والمختصين في هذا الأمر من المسؤولين والمؤذنين وغيرهم وعدم الاستناد إلى الروايات والحكاوي ليكون توثيقا تتعاقبه الأجيال، مبديا أسفه لعدم وجود توثيق مفصل عن ذلك،
وأشار إلى أن لدى الرئاسة العامة لشؤون الحرمين تسجيلات نادرة للمؤذنين القدامى متوفرة في مكتبة مكة المكرمة.
المصدر : عكاظ 6/9/1430هـ -عبدالله الداني
0 تعليقات