بيت نورولي ..عمره 150 عاماً ويحكي قصص حارات المظلوم واليمن والشام و"العيدروس"

لم أكن أتوقع إطلاقاً أن يكون (بيت نور ولي) في سوق العلوي والذي يعتبر أجمل البيوت التاريخية من حيث الشكل والتصميم بهذا الخراب والدمار من الداخل؛ خاصة أن مظهره من الخارج مازال محتفظا بشكله ومظهره المعماري الجميل، ومازالت رواشينه ونوافذه الخشبية الخارجية محتفظة برونقها وألوانها، كما أن مكتب أبناء وأحفاد نور ولي التجاري مازال في البيت .. ولهذا كنت أعتقد أنني سأشاهد من الداخل أحد البيوت التاريخية المحافظ عليها ونموذجاً يحتذى لغيرهم من أصحاب تلك البيوت التاريخية لكيفية الحفاظ على هذه الكنوز المعمارية وحمايتها والاستفادة منها ..ولكن المؤسف أنني ماكدت أتجاوز الدور الأول الذي يقع فيه المكتب التجاري للعائلة وانتقلت للدور الذي يليه حتى فوجئت ببقايا منزل والدمار يطل من جميع جوانبه وقد تغطت أرضيته بزبل الحمام ورائحته الكريهة التي كانت تغطي كل الغرف التي خلعت أبوابها وتكسرت نوافذها وغطاها الغبار والإهمال واتخذ "الحمام" من الفتحات في نوافذها وقبابها أعشاشاً لوضع بيضه الذي كان يتساقط على رؤوسنا كلما حركنا بابا متربس أو نافذة اعترضت طريقنا.

أحسست بحالة من الألم وأنا أتجول في الغرف التي غطيت أرضيتها بالغبار وسرى الإهمال في أنحائها، وسألت مرافقي من المكتب عن أسباب هذا الإهمال الذي شوه البيت من الداخل وجعله بهذه الصورة من السوء، ولماذا على الأقل لايتم تنظيف هذه المهملات التي تغطي كل مكان داخل البيت؟، فقال :في السابق تم تكليف أحد العمال بالتنظيف ولكنه هرب واعتذر عن الاستمرار في تنظيف المنزل لأنه يقول إنها مسكونة بالجان وهذا للآن هذا الجزء مهجور منذ تركه أبناء وأحفاد نور ولي وانتقلوا للسكن في الأحياء الجديدة كغيرهم من أبناء جدة التاريخية.

بيت نور ولي له قيمة تاريخية تتمثل في أنه من أقدم بيوت جدة التاريخية على الإطلاق، حيث يزيد عمره عن (150)عاما، ويقال إنه كان في السابق يعرف ببيت الصبان، ولا يعرف إذا كان الصبان مالكه أو أنه البناء الذي أشرف على بنائه، وقد كانت ملكيته قبل أن يؤول لنور ولي لبيت عاشور.

وأوضح السيد عبدالرحيم عبدالقادر نور ولي أن والده اشترى البيت من عاشور من خلال مزاد علني، وعندما أخبر دلال المزاد العلني أن هناك شخصاً مستعداً أن يدفع لشراء البيت (2000) جنيه ذهب ولكن الجميع لم يصدق وجاء والدي ودفع القيمة وأعتبره الجميع مجنونا إذ يدفع هذا المبلغ الكبير في البيت، ولكن والدي لم يشعر بالندم لأن البيت كان كبيرا وهو الذي يصلح لسكن العائلة الكبيرة، كما أن البيت مصمم بشكل هندسي لايتوفر في كل البيوت آنذاك، حيث كان في أسفله بئر وفي أعلى السطوح مرزاب تمر من خلاله مياه الأمطار عند هطولها إلى صهريج أرضي، وقد عملت للبيت فتحات خاصة خارجه يفرغ فيه السقاءون الماء دون الدخول إلى المنزل، كما يشتمل المنزل على عدة قاعات وغرف كبيرة يزيد عددها عن(15) غرفة عشنا فيها وتزوجنا فيها وقضينا فيها أجمل لحظات عمرنا.

ويذكر السيد يوسف ولي أنه سمع من بعض الناس آنذاك أن سكان جدة القدامى كانوا يعتبرون البيت ناطحة سحاب في جدة القديمة، لأنه وبيت نصيف كانت أعلى مبنيين في جدة التاريخية ويتكون البيت من أربعة أدوار مبنية من الحجر المنقبي حسب نمط العمارة القديم في جدة، وكنا عندما نريد أن نعرف بوصول أحد البواخر إلى الميناء نصعد على سطوح المنزل، ومن خلال الناظور نكتشف إذا كانت الباخرة قد اقتربت من جدة أم لا..ويتذكر السيد يوسف نور ولي أن بعض كبار السن قد ذكروا له بأن عدداً كبيراً من الشخصيات الكبيرة والمسئولين من مختلف بلاد العالم قد استضافهم البيت في الماضي.

السيدان عبدالرحيم ويوسف نور ولي يؤكدان على أن الماضي كان أجمل رغم بساطته ومحدودية إمكانات الناس آنذاك، وكانت العلاقة بين الجيران أقوى وأكثر حميمية وكل الجيران يعرفون بعضهم ويزورون بعضهم في كل المناسبات ويتفقدون أحوال بعضهم، وكان الناس متقاربين ومتساويين في كل شيء الغني مثل الفقير ليس بينهم أي فروق أو اختلافات، وهذا ماخلق ارتباطاً أعمق بين الجيران في الحي الواحد وكنا صغارا نلعب مع أبناء الجيران بعض الألعاب البسيطة التي لم يعد لها وجود اليوم، فإذا أذن لصلاة المغرب دخلنا إلى بيوتنا وبعد صلاة العشاء تغلق جميع أبواب البيوت، حيث كان الجميع ينام مبكرا وليس مثلما عليه الحال اليوم حيث تظل البيوت ساهرة إلى ساعة متأخرة من الليل وتبقى الحركة في المدن لاتتوقف ..

وفي عيد الفطر كان لكل حارة يوم للمعايدة، حيث يأتي سكان الحارات الأخرى في جدة القديمة وهي أربع حارات لمعايدة الحارة التي لها اليوم وكان اليوم الأول للمظلوم، والثاني لليمن، والثالث للشام، والرابع للعيدروس الذي كان مدينة ملاهي جدة القديمة آنذاك ففيه تنصب مراجيح الخشب والعربات المتحركة التي تجرها البغال وغيرها من مظاهر الفرح كالألعاب الشعبية ورقصات المزمار، حيث يكون ذلك اليوم كرنفالا تختتم به أيام العيد الأربعة.

ما حل ببيت نور ولي من خراب في الداخل وهو أحد البيوت المميزة والنادرة في جدة القديمة يمثل إدانة صارخة لما يتعرض له من إهمال قد يؤدي إلى سقوطه وتهدمه وضياع هذه التحفة المعمارية ..

السيد يوسف نور ولي قال إنهم -أي الورثة- حريصون على ترميم البيت سنويا أو كل مااحتاج الأمر والواقع إن مارأيته في الأدوار التي بعد مكتب الأسرة التجاري تؤكد أن البيت لم يرمم منذ فترة طويلة ووضعه في غاية السوء، ولهذا فإن الأمانة وهيئة الآثار مطالبة بالوقوف على هذا البيت وسرعة وضع طريقة للحفاظ عليه وحمايته قبل أن يلحق ببيوت جدة التاريخية التي تهدمت وتلاشت بسبب إهمالها من أصحابها وعدم القيام بشيء من قبل الأمانة لإنقاذها رغم تأكيد الأمانة الذي لايتوقف بأن الحفاظ على جدة التاريخية سيكون في أولويات اهتماماتها.

المصدر / جريدة الرياض 27/ جماد الاولى 1430هـ / جدة، تقرير-سالم مريشيد: تصوير-محسن سالم .