بتوسعة الملك: ربط الصفا والمروة بأكبر رواق في العالم


في تاريخ بناء مسعى الحرم المكي مفاصل تاريخية مهمة ربما لا يدركها كثير من الطائفيين والساعين، حيث ظل المسعى على مدى ثلاثة عشر قرنا ونصف القرن التراب فراشه والسماء سقفه، وفي خلافة أبي جعفر المنصور قام عامله على مكة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس بإنشاء اثنتي عشرة درجة على الصفا، وخمس عشرة درجة على المروة؛ وذلك لتسهيل الصعود عليهما.

ففي اليوم الخامس من المحرم عام 1375هـ أعلن رسميًا بأنه قد صدر الأمر بأن تنتقل جميع الآلات والمعدات التي استخدمت في مشروع المسجد النبوي إلى مكة المكرمة للشروع فورًا في مشروع توسعة المسجد الحرام.

وفي اليوم الرابع من ربيع الثاني عام 1375هـ بوشرت أعمال التوسعة وشهد يوم الخميس 23 شعبان 1375هـ احتفالاً أقيم أمام باب أم هانئ من أبواب الحرم الشريف لوضع الحجر الأساسي في توسعة المسجد الحرام حضره جلالة الملك وعدد من كبار رجال الدولة وأعيان البلاد ووجهائها وكثير من مندوبي الدول الإسلامية، وقام بوضع الحجر الأساسي، وكان وضع الحجر الأساسي إيذانًا بابتداء مراحل البناء، فشرع في صب قواعد الأسمنت التي أقيم عليها جدار التوسعة الخارجي في الناحيتين الجنوبية والشرقية بمنطقتي أجياد والمسعى، ولم ينقض شهر ذي القعدة من العام المذكور حتى تم تحويل القسم الأكبر من الطريق القديم إلى الطريق الجديد، وقد سمي شارع الملك سعود، وهو من تقابل موضع الحجر الأساسي خارج حدود التوسعة مارًا خلف الصفا والقشاشية من سفح جبل أبي قبيس إلى أن يلتقي بالطريق القديم عند سوق الليل بمنطقة غزة.

وبذلك انقطع المرور من المسعى فتمكن الحجاج ولأول مرة منذ مئات السنين من السعي بين الصفا والمروة في موسم العام 1375هـ وهم في اطمئنان وخشوع لا يزعجهم أو يضايقهم مرور السيارات أو غيرها مما كان يحدث في الماضي. وبذلك يكون قد انتهت المرحلة التمهيدية بانتهاء عام 1376هـ.

ويعتبر المسعى أطول رواق من نوعه في العالم، وهو مبني من دورين، طوله 394م وعرضه 20م، وقد شيد بالخرسانة المسلحة على شكل بناء ذي هيكل خرساني، وقد أسس هذا الهيكل في مقطع طولي على طبقة الوادي الرملية المتماسكة، وأقسام هذا الهيكل القريبة من تلال الصفا والمروة مؤسسة على صخر ناري. وقد صممت الأساسات على أن تكون على شكل مسند ينبسط من الخرسانة المسلحة، وفي الأيام العادية يستعمل الدور الأرضي فقط لتأدية السعي، ولكن في موسم الحج يستعمل الدور الأول كذلك. ويبلغ ارتفاع المسعى 11,75م ومجموع أبوابه 16 بابا، يوجد منها أحد عشر بابا في الجانب الشرقي مواجها شارع القشاشية، والخمسة الباقية في الجانب الغربي بعد باب السلام. وعلاوة على ذلك توجد سبع فتحات بين المسعى والمسجد القديم. والأبواب الخارجية تعلوها مظلات غطيت بألواح القرميد الأخضر النصف دائري. والرصيف في شارع القشاشية عادة على مستوى عال 293.5م من سطح البحر، وينزل الإنسان على درج لكي يصل إلى الدور الأرضي للمسعى الذي يبلغ منسوبه عادة291.30م عن سطح البحر. وفي الدور الأرضي دِرْوة صغيرة بارتفاع 0.7م تقسم المسعى من منحدر الصفا إلى المروة. وقد جعل في هذه الدِّرْوة فتحات أمام المداخل حتى تسمح بالدخول أو الخروج من المسجد. وعلى جانبيه حواجز تجعل منه ممرا مزدوجا لمرور الكراسي المتحركة التي يستعملها كبار السن والمرضى من الساعين. وقد جهز المسعى بـ 228 شباكا على جانبيه للتهوية، كما جهز بأجهزة تكييف صحراوية ومراوح؛ لتجعل جو المسعى لطيفًا. وقد استعمل الرخام في تبليط الأرضيات، وكسيت الجدران حتى مستوى الشبابيك. وفي المسعى 64 طاقا (بورتال فريم) تفصل كل واحدة عن الأخرى مسافة خمسة أمتار، والأعمدة التي تحملها قد غطيت بالرخام والحجر الصناعي. وقد بلطت منحدرات الصفا والمروة بترابيع رخام مقسم؛ لكيلا ينزلق الحجاج أثناء السعي. وقد شيدت قبة سنجابية اللون فوق الصفا، كما جعل سطح المروة على شكل هرمي، وغطيت بألواح من القرميد نصف الدائري أخضر اللون، وتعتبر إضافة دور علوي إلى الدور الأرضي فكرة طيبة استدعتها الضرورة؛ لكي يمكن مواجهة الزيادة المطردة في عدد الحجاج، والدور الأول كالدور الأرضي طوله 394م وعرضه 20م، وارتفاع الدور الأول 8.5م، ولكي يرى الحجاج الساعون في الدور الأول ربوتي الصفا والمروة جعل عند نهايته من جهة الصفا شرفة مستديرة، وأخرى مستطيلة عند نهايته من جهة المروة، وهناك سلّمان لكل منهما بسطات تؤدي إلى المسعى، وهناك في نهاية المسعى عند المروة يوجد جسر يربطه بشارع القرارة في الشمال.

وتبلغ مساحة كل من الدورين 16700م 2. ويمكن في وقت الزحام استيعاب 15000 شخص للسعي. وفي خلال موسم الحج فإن مجموع عدد الحجاج الذي يقومون بتأدية السعي في يوم واحد يبلغ 0.6 مليون. وهذا يعني أن حوالي 1.8 مليون حاج يمكنهم أن يؤدوا السعي خلال ثلاثة أيام الحج.

وعندما تولى مقاليد الحكم الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ــ رحمه الله ــ وفي عام 1406هـ أمر بتبليط سطح التوسعة السعودية الأولى بالرخام البارد المقاوم للحرارة، وقد كان من قبل غير مهيأ للصلاة فيه، فأحدث بذلك توسعة كبيرة للمصلين وزيادة تساوي مساحة الطابق الأول. هذا غير ما تم تبليطه أيضا من سطح المسجد الحرام، حيث بلغت مساحة السطح بما فيها الدور الثاني للمسعى 61000 م2، وأصبح يتسع لتسعين ألف مصل.
وفي سنة 1415هـ تمت توسعة منطقة الصفا في الطابق الأول؛ تسهيلاً للساعين، وذلك بتضييق دائرة فتحة الصفا الواقعة تحت قبة الصفا.

وفي سنة 1417هـ تم هدم وإزالة بعض المباني حول منطقة المروة، وحصل تغيير كبير في الطابق الأرضي والأول فيها؛ لغرض القضاء على الزحام في هذا الموقع، حتى صارت مساحة المنطقة (375) مترا مربعا بدلا من المساحة السابقة وهي (245) مترا مربعا.

كما حصلت أيضا توسعة الممر الداخل من جهة المروة إلى المسعى في الطابق الأول، وأحدثت أبوابا جديدة في الطابق الأرضي والأول للدخول والخروج من جهة المروة.

وفي سنة 1418هـ تم إنشاء جسر الراقوبة الذي يربط سطح المسجد الحرام بمنطقة الراقوبة من جهة المروة؛ لتسهيل الدخول والخروج إلى سطح المسجد الحرام، ويبلغ طول الجسر (72.5)م ، ويتراوح عرضه من (10)م إلى (11.5)م.

كما تم توسعة الممر الملاصق للمسعى الذي يستعمل للطواف بالطابق الأول في أوقات الزحام من منطقة الصفا إلى ما يقابل منتصف المسعى، حيث تمت توسعته، فأصبح عرضه 9.20م ويبلغ طوله 70م.

ومن أهم ما تم في المسعى أن زود بفتحات للتهوية ومراوح، وتم تكييفه بطريقة فريدة.

وخلال عامي 1420 ــ 1422هـ جرى فتح ثلاثة أبواب عند المروة في الطابق الأرض، كل باب بفتحتين؛ لتسهيل الخروج من ذلك الطرف تفاديًا للازدحام، باب في الجهة الشرقية للمروة، وباب شمالي صدر المروة، وباب في الجهة الغربية، وكذلك جرى فتح ثلاثة أبواب في الطابق الأول عند المروة على نفس ترتيب الأبواب الجديدة في الطابق الأرضي.

وفي شهر ربيع الآخر الماضي افتتحت الرئاسة العامة لشوؤن المسجد الحرام الدور الثالث للمسعى الجديد لإتاحة الفرصة أمام أكبر عدد من المعتمرين ليؤدوا شعيرة السعي في الدور الثالث للمسعى الجديد، وبذلك يصبح بإمكان المعتمرين أداء السعي في الأدوار الثلاثة للمسعى الجديد في الوقت الذي لا يزال العمل جاريا في موقع المسعى القديم، ولا زال العمل يتواصل في مشروع توسعة مسعى المسجد الحرام والساحات الشمالية والتي تشمل إضافة ساحات شمالية للحرم بعمق 380 مترا تقريبا وأنفاقا للمشاة ومحطة للخدمات بمساحة 300 ألف متر مسطح تقريبا، حيث يسجل المسجد الحرام مرحلة تاريخية جديدة في بنائه.

أكبر توسعة
تعد توسعة الملك عبد الله بن عبد العزيز أكبر توسعة على مرّ العصور، ويأتي هذا المشروع العملاق امتدادا لاهتمام قادة المملكة ببناء وتوسيع الحرمين الشريفين منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله. وتبلغ المساحة الإجمالية لهذه الساحات أكثر من 40 ألف متر مربع وتستوعب أكثر من 65 ألف مصل في الأيام العادية وتتضاعف في أيام الذروة. ويتضمن المشروع إنشاء نفق للسوق الصغير الذي يمتد من ميدان الشبيكة إلى أنفاق أجياد السد الذي يفصل حركة المشاة عن حركة السيارات أمام المنطقة الواقعة أمام بوابة الملك فهد وبوابة الملك عبد العزيز ليتمكن المصلون من الدخول والخروج من وإلى الحرم المكي الشريف بكل يسر وسهولة، وكذلك الاستفادة من هذه الساحات لأداء الصلاة فيها. وتم الانتهاء من هذا النفق الذي بلغت تكلفته الإجمالية أكثر من 650 مليون ريال. كما تتضمن التوسعة تنفيذ عبارات خرسانية في منطقة ما حول الحرم المكي الشريف يتم تنفيذها بشكل دائري لتمديد خدمات المرافق العامة بها من مياه وصرف صحي وهاتف وكهرباء وغير ذلك دون اللجوء إلى التكسير وذلك للحفاظ على جمال المنطقة، حيث تقوم كل جهة بتمديد خدماتها عبر هذه العبارات الخرسانية الموجودة تحت الأرض. وهناك العديد من المشروعات الحيوية التي تم تنفيذها لخدمة ضيوف الرحمن خلال الأعوام السابقة ومنها إنشاء ستة جسور في المسعى لفصل حركة دخول وخروج المصلين من وإلى الحرم لمن يؤدون شعيرة السعي حتى يتمكنوا من أداء شعيرتهم بكل يسر وسهولة ودون أي ازدحام أو مضايقة.

المصدر / عكاظ 1/8/1430هـ - هاني اللحياني