المنصور.. “أبو الأحياء”


لعل من المفارقات المثيرة حول حي شارع المنصور الذي يحظى بمكانة تاريخية وجغرافية كبيرة في مكة المكرمة أنه كان أول الأحياء التي استوعبت المواطن والمقيم مع بداية الزحف السكاني نحو منطقة الحرم المكي الشريف كما يعد أولها أيضا في الخضوع لمرحلة التطوير والتحديث المقبلة خلال أشهر بإزالة عشرات الأحياء الصغيرة العشوائية التابعة له بهدف تنفيذ المشروع الرائد لاعادة تخطيط المناطق والأحياء العشوائية في مكة والطريق الموازي في المدخل الرئيسي للعاصمة المقدسة الجهة الجنوبية الغربية. لكن اللافت خلال جولتنا في الحى هو اتفاق الغالبية على أهمية إعادة النظر في تقدير قيمة العقارات التي سيتم نزعها لصالح التطوير الذي يبحث الجميع عنه.

وتنبع أهمية الحي أيضا من حيث أنه يمثل واجهة أولية للقادمين من جدة عن طريق الخط السريع ويحيط به الطريق الدئري الأول، ولأهمية هذا الحي أصبحت الأحياء المجاورة له والملحقة به، تسمى باسمه وتتجاوز مساحته الإجمالية الحالية أكثر من 10 كيلومترات مربعة ويمثل الحي في الأساس جزءا من المسفلة، حيث تنقسم مكة المكرمة في التاريخ القديم إلى قسمين فقط «معلاة» و«مسفلة».

وتمثل منطقة المعلاة شمال مكة المكرمة والمسفلة جنوبها، قبل أن تتكون مكة المكرمة من الحواري السبعة والأحياء التي سميت بأسمائها والواقعة في دائرة المنطقة المركزية للمسجد الحرام، وأصبح كل حي منفصلا عن الآخر له أهله وعمدته ومدارسه وإن كان بعضها يشترك في المدارس وبعض مراكز الخدمات كالمراكز الصحية، ويوجد على امتداد حي المنصور عشرات المدارس الحكومية والأهلية الخيرية، أكثر من منتدى ثقافي يديره مجموعة من المثقفين الذين ينحدرون من أصول إفريقية بعضهم من المعلمين المتقاعدين أو موظفي الدولة في القطاعات المختلفة، ولعل مظاهر المخالفات والجرائم والسرقات والمخدرات تعد من أبرز التحديات التي ستواجه الهيئة العليا لتطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، لأن مبدأ شخصية المواطن الإفريقي عدم تدخله فيما لا يعنيه، لذلك قلَّ أن يُبلغ الجهات المسؤولة عن مخالفة يشاهدها مالم يكن متضررا منها ضررا بالغا، لذلك فإن الكثير من المجرمين والمخالفين يمارسون حياتهم في «خشاشيش» هذا الحي الفوضوي.

ملحقات الحي
وقد انضم لحي شارع المنصور أكثر من 30 حيا من الأحياء الصغيرة الفرعية تحت مظلة حي شارع المنصور منها «شارع جرهم، الطندباوي، الهنداوية (بشقيها الشرقي والغربي)، الرصيفة، مخطط الأمير أحمد، الحفاير، حارة الزبرمة، أم غضب، جبل النار، العلاقي، الهلال الأحمر، حوش بكر، المكوار، سوق البرنو، سوق المجانين، حارة يمن، دحلة العبادلة، دحلة خزاعة، دحلة المغاربة، وادي زقلة، حارة الشناقيط، جبل غراب، حارة البرانوة، حي الزهارين، حي القرانية، حارة يركاسوة، طلعة أوعِمة»، وقبل هذا الاسم كان يطلق عليه «حارة جرول التكارنة» رغم أن أمانة العاصمة المقدسة في تسميتها الأخيرة لأحياء مكة المكرمة لم تعتمد على المصادر التي يمكن أن تفيد كثيرا وهم كبار السن من أهالي مكة واعتمدت على بعض المهندسين والمختصين في الخرائط المعمارية وتخطيط المدن، وخلال البحث في المصادر التاريخية لم نجد مراجع تاريخية تتكلم عن الحي أو تحدد أسباب تسميته بهذا الاسم لكن السكان القدامى أكدوا أن تسميته كان نسبة إلى صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن عبدالعزيز «يرحمه الله» وهو أول شارع يتم إنشاؤه على اتجاهين مع سفلتته وربطه بالمسجد الحرام

وقد شهد إنشاء هذا الشارع إزالة عشرات المساكن المبنية من الصنادق والعشش وتم تعويض أصحابها ثم بدأت مسيرة عمران الصنادق تمتد من جهة الحفاير، ولم يكن هناك مساكن جهة ما يعرف الآن بـ«الرصيفة» و«جبل غراب»، وكانت أشجار «الطندب» تكسو جزءا كبيرا من الحي من الجهة الجنوبية إضافة إلى الجبال ومن أشهرها «جبل النار» وشبِّه بالنار لأنه جبل أحمر اللون تماما ويظهر من بعيد في أيام حرارة الشمس كأن ألسنة اللهب تتصاعد من فوقه.

الزحف السكاني
بدأ الزحف السكاني الحقيقي لمنطقة شارع المنصور بعد حادثة حريق سوق الليل الشهيرة قبل قرابة قرن من الزمان عندما ألزمت الحكومة «الأفارقة» بمغادرة الموقع فتوجه أكثرهم إلى شارع المنصورحيث أنشأوا بيوتا من العشش وبعض الصنادق، كما انتشر بعضهم في أطراف جبال المسفلة.

ويمثل شارع المنصورحاليا شريانا حيويا لواقع العاصمة المقدسة حيث يتجاوز عدد سكانه 150 ألف نسمة، نسبة المواطنين فيه لا تتجاوز 10% وتشكل الجالية الإفريقية السواد الأعظم من السكان، تليها الجالية الآسيوية ثم العربية، ورغم أن الحي كان يقتصر سكانه على مواطنين من قبائل «خزاعة» و«العبادلة الأشراف» وبعض المواطنين من أصول إفريقية ومقيمين وبعض المواطنين من أصول يمنية ومقيمين، إلا أن الزحف السكاني وتوافد العمالة الوافدة للمملكة منذ بداية الطفرة عام 1400هـ جعل الحي يعج بالوافدين بنسبة كبيرة، ومنهم العمالة الذين يعملون في مختلف القطاعات الأهلية.

ويروي العم بكر أحمد تكروني أن الحي كان عبارة عن جبال وأودية وبساتين، ولم يكن للوجود السكاني أثرا كبيرا فيه ومن أبرزهم أسر القاضي والأدماوي والهوسة والفلاتة، وأسرة واحدة فقط للزبرمة، ومع مرور الأيام بدأ الزحف السكاني يتجه للحي خاصة بعد انتقال بعض سكان البلد لجهة الحفاير.. ويضيف: شهد حي المنصور حدثا تاريخيا عندما افتتح الشارع الرئيسي الذي يربط المنطقة بالمسجد الحرام وسُمِّي الشارع باسم الأمير منصور بن عبدالعزيز (حينما كان وزيرا للدفاع). وقال: إن الحي كان يتميز في الماضي بوجود الرجال الصالحين كما كان التكارنة من أصدق الناس في المجتمع المكي، حتى أن المثل المعروف لدى أهالي مكة «التكروني لا يسرق ولا يكذب» أما واقع حال الحي اليوم فلا نقول سوى «إنا لله وإنا إليه راجعون».


المرجع : جريدة المدينة / الثلاثاء 1/2/1430هـ / لـ محمد رابع سليمان