لقاء مع مهندس المتاحف والآثار أنس صالح صيرفي

الثقافية - علي بن سعد القحطاني:

تفتح «الثقافية» نافذتها على تجربة هندسية وثقافية فريدة يقودها المهندس أنس صالح صيرفي، الأمين العام لمؤسسة «المِداد للتراث والثقافة والفنون»، الذي اختار أن يجعل من العمارة فعلًا حياً، ومن التراث مشروعًا ثقافياً يتجاوز حدود العرض إلى فضاء التعليم وصناعة الوعي.

أنس صيرفي، الذي وضع بصمته في تأسيس «متحف دار الفنون الإسلامية» داخل مركز تجاري في جدة بارك -في خطوة كسرت القوالب التقليدية للمتحف- يؤمن بأن الثقافة يجب أن تعود إلى قلب الحياة اليومية، وأن الإرث الإسلامي قادر على أن يخاطب الطفل والباحث والسائح في اللحظة نفسها.

ولا يقف عطاؤه عند حدود المتحف؛ إذ حمل مسؤولية احتضان مكتبة معالي الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان -رحمه الله-، تلك المكتبة التي تُعد إحدى أثمن ذاكرات مكة العلمية، بما تضمه من مخطوطات وكتب ووثائق وهوامش وتعليقات بخط صاحبها.

بالنسبة للمهندس أنس صالح صيرفي، لم تكن المكتبة «أرففًا»، بل إرث عالمٍ لا يجوز أن يُغلق، ومسؤولية حضارية تُكمل ما بدأه الشيخ في حياته.

في هذا اللقاء، تتقاطع الرؤية الهندسية مع الوعي التاريخي، وتلتقي ذاكرة المكان بروح المستقبل، لنستمع إلى رؤيةٍ مختلفة تقول إن الثقافة ليست جناحًا مرافقًا للمشروعات العمرانية… بل قلبها النابض.

ذاكرة المكان

* في إشارة سابقة بيَّنتم أنكم تجمعون بين التراث العمراني والهوية الوطنية في مشروع هندسي واحد. كيف تستطيع الهندسة اليوم أن تُؤسِّس لرؤية ثقافية تحفظ الذاكرة وتستجيب للمستقبل؟

- الهندسة في تقديري ليست مخططًا يُرسَم، بل وعيٌ يُعاد تشكيله في كل مشروع. نحن في المملكة نعيش مرحلة تنموية متسارعة، وفي خضم هذا الاندفاع قد نفقد شيئًا من روح المكان إذا لم نُحسن الإصغاء للذاكرة.

التراث العمراني ليس حنينًا، بل «هويةٌ تمشي على الأرض». وإذا فقدت المدينة هذا البعد، تحولت إلى فضاء بلا جذور.

ما أطمح إليه هو أن يكون المبنى ذاكرة قابلة للتجدد؛ عمارة لها جذر وروح قبل أن تكون واجهات لامعة أو هياكل صامتة. نحن قادرون على تقديم نموذج معماري سعودي حديث يستوعب المستقبل دون أن يتبرأ من ماضيه. وهذه الرؤية تنسجم مع روح رؤية المملكة 2030 التي جعلت من التراث عنصرًا من عناصر القوة الناعمة.

متحف دار الفنون

* كيف وُلدت فكرة إنشاء «متحف دار الفنون الإسلامية» داخل مركز تجاري؟ وما الرسالة التي أردتم إيصالها بهذا الموقع غير التقليدي؟

- الفكرة بدت غريبة في بدايتها، وكثيرون ظنّوا أننا نخوض مغامرة غير محسوبة. لكنني كنت مقتنعًا بأن المتحف يجب أن يعود إلى الحياة اليومية؛ إلى المسار الذي يسير فيه الناس دون تكلّف.

* المراكز التجارية اليوم هي الساحات العامة الجديدة. هي المكان الذي تلتقي فيه العائلات، وتتشكل فيه العلاقات، ويتقاطع فيه الزوار والسائحون. فلماذا لا يكون التراث جزءًا من هذا الفضاء الحيوي؟

أردنا أن نقول إن الإرث الإسلامي ليس في برج عاجي، بل في قلب الحركة اليومية، وأن جمال الحضارة الإسلامية قادرٌ على مخاطبة الطفل والباحث والسائح في اللحظة نفسها.

مقتنيات المتحف

* كيف تسهم مقتنيات المتحف - التي تمتد إلى خمسة عشر قرنًا - في خدمة رؤية المملكة 2030 وتعزيز التفاعل مع الإرث الإسلامي؟

- بكل تأكيد أن لهذه المتاحف تواصلاً مع الجامعات والمراكز البحثية للإثراء والتواصل التراثي والثقافي والحضاري.

بلا شك أن «مؤسسة المداد» بمتاحفها ومكتبتها ومركز ترميم التراث تعقد شراكات واتفاقيات مهمة مع الجامعات والمراكز البحثية والثقافية والتراث، وبدعم من هيئة التراث ووزارة الثقافة عقدتا اتفاقيات تعاون وتفاهم مع العديد منها وكان آخرها اتفاقية مع دارة الملك عبدالعزيز والتي سبقها مبادرات مثيلة.. والحمد لله باتت «مؤسسة المداد» صرحاً تراثياً وثقافياً يخدم العلم والمعرفة في هذا الوطن العظيم الذي له حق في أعناقنا، فمهما فعلنا فلن نوفيه حقه.

ومن توفيق الله حظيت «المداد» بما فيها من مكونات بجوائز محلية وعالمية تحفزنا للمضي قدماً نحو مستقبل مشرق.

المنصة التعليمية المفتوحة

* ما الفرص التي يقدّمها «متحف دار الفنون الإسلامية» للطلبة والباحثين والمهتمين بالفنون الإسلامية؟ وهل لديكم برامج تدريبية أو شراكات مع الجامعات؟

- اتفقنا منذ البداية على أن المتحف لن يكون قاعة عرض صامتة، بل منصة تعليمية مفتوحة.

الثقافة إذا بقيت حبيسة الكتب لن تصل إلى الجيل الجديد، أما حين تُلمس وتُرى وتُحلَّل فإنها تتحول إلى خبرة حيّة.

لدينا برامج تدريبية تشمل:

* التوثيق المتحفي

* إدارة المقتنيات

* قراءة النقوش والخطوط

* صيانة التراث

* ورش تطبيقية يعيش فيها الطالب تجربة الباحث كاملة.

عقدنا شراكات مع عدد من الجامعات السعودية، كان أحدثها مع جامعة الملك سعود التي اعتمدت الساعات التدريبية داخل المتحف ضمن متطلبات مشروع التخرج. وبدأنا منذ ذلك الحين استقبال مجموعات من الطلاب والطالبات بصورة منتظمة، تجاوز عددهم حتى الآن ألفًا وخمسمائة متدرب ومتدربة.

بعضهم يكتب أبحاثًا، وآخرون ينجزون مشاريع تخرج، وبعضهم اكتشف في هذا المجال مسارًا مهنيًا جديدًا.

هدفنا أن نصنع جيلًا يرى التراث رصيدًا معرفيًا واقتصاديًا، لا عبئًا أو تاريخًا منقطعًا.

مكتبة معالي الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان

* يملؤكم الشغف بالتراث، وقد كان لكم دور بارز في احتضان مكتبة معالي الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان رحمه الله. ماذا يعني لكم هذا المشروع؟

- حين آلت إلينا في «المِداد» مهمة احتضان مكتبة الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان، أدركنا منذ اللحظة الأولى أننا لا نتسلّم مجموعات من الكتب فحسب، بل نتسلّم تاريخ عالِم عاش عمره للعلم، وترك وراءه أثرًا لا يُختصر في رفوف أو مجلدات.

فالشيخ عبدالوهاب أبو سليمان لم يكن فقيهًا بارعًا وحسب، بل كان مؤرخًا لمكة، وخبيرًا بأماكنها، وباحثًا دؤوبًا في تاريخ المسجد الحرام، ومحبًّا للمكتبات والأماكن المأثورة، يقرأ المكان كما يقرأ النص.

وكانت مكتبته صورة صادقة لروحه: آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق والرسائل، وهوامش بخطه تكشف دقته، وتعليقاته التي تُظهر عمقًا معرفيًا قلّ نظيره. ولم نتعامل معها كمقتنيات جامدة، بل كمسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مشروعًا علميًا.

ولهذا بدأنا فهرسة محتوياتها، وتصنيف موادها، وتهيئة قاعاتها للباحثين، وربطها ببرامج علمية تُعيد الحياة إلى هذا الإرث وتضعه بين أيدي الجيل الجديد. لم نرد للمكتبة أن تتحول إلى غرفة مغلقة، بل إلى فضاء نابض، كما كانت في حياة صاحبها.

فـتكريم العلماء ليس مناسبةً عابرة، بل فعل حضاري يحفظ للمعرفة مكانتها، ويصون ذاكرة الأمة.

ومكتبة الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان جزء راسخ من ذاكرة مكة العلمية، ومهمتنا أن تبقى مفتوحة، حيّة، ومُلهمة لكل من يطرق بابها.

نقلا عن الجزيرة الثقافية  الجمعة ٦ جمادى الآخرة ١٤٤٧هـ الموافق ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٥م